رحيمو من خصوبة اللون إلى التمهيد لإنبعاث جديد

  • 12/4/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كانت قراءة العمل الفني شكل من أشكال الإقامة في هذا العالم وهو فعل حضور فيه تتجلى الحياة الزاخرة بالدلالات، فلا شك أنه يتحول إضافة إلى ذلك إلى كم من التأملات والكشف.  وأنت تقترب من أعمال التشكيلي رحيمو وعلى نحو أعمق في أعماله الأخيرة حيث الفراغ مجهول في حضرة الحقيقة والجمال، و الظل يفاجئك وهو يستل من بين مؤسسه منتشلاً موجوداته، مشكلاً عالماً ثرياً غير مغلق على ذاته، فيحتفي به ونحن معه مدركين أنها ليست مجرد تصورات تنتظم برؤية معينة في مساحة معينة بل هي إلحاح يهفو به رحيمو ليفرش مقاصده إلى ما شاء منها وبما يقبل المؤثرات القادمة من ذاكرته الشرقية.  فهو كتوطئة لمشروعه الجمالي يشد الماضي إلى حاضره، يشد العبق الشرقي وموزاييكه إلى صياغاته الجديدة المسكونة بذلك النفح الذي يجعله يزاوج بينهما على نحو خفي دون أن يتملص من جذوره العالقة بذلك النفح، فهو لا يوهم متلقيه بالعودة إلى الرؤية البيانية لتجربته الجديدة، بل يمسك من روحه ويرميه في المنجز رغماً عنه فهو جزء مهم من الحالة الإبداعية.  وبذلك يكسر الطقوس التقليدية لخلق هكذا حالات، ويرسم لنفسه طقساً خاصاً به هو مزيج من الشعر والموسيقى واللون، وهذا ما يجعل عمله يجاهر بالتجاوز وفق إحتواء اللحظة وإستنهاض الإيقاع فيها . رحيمو يرتقي بتجربته ويعلن بشكل صريح بأنه قادم من الشرق وبأن وجوهه مازالت تنبض بحكايا المدن البسيطة، حكايا الناس البسطاء برموزها الشعبية، فيلتقط صورهم وسط صياغات لحظية عليها يعول مكوناته الخاصة ورموزه الخاصة المنتزعة من منابتها الخاصة والتي لا يمكن إلغاءها لأن ذلك يعني إبادة اللوحة.  رموزه التي تفي حاجاته حتى يتمكن نصه الجمالي الشروع والإرتقاء إلى مدائن الجمالية التعبيرية والتي عليها يؤسس رحيمو خطابه الفني، الخطاب الذي يقلص المسافة الفاصلة بين الأسطوري والأسطورة، بين الإيقاع الداخلي والإيقاع الخارجي، بين شرقه بطقوسه الموزاييكية والغرب بطقوسه الحداثية، حتى تبدأ وجوهه بسرد حكاياتهم وحلمهم بلغة جديدة بها يكاشف زمن الخلق، وبها يفضح الفاجع، فثمة حرص على إستحضار ملفوظات تومىء إلى الوجود بوصفه حلم كئيب موغل في القتامة .  إن تتبعنا لأيقونات رحيمو الأخيرة أقصد أعماله الأخيرة بتقنياتها الجديدة وبألوانها الكثيفة المعتقة تذكرك فاعليتها ونفحتها بالخمر المعتق، وهي نتاج تأملات طويلة وملهمة.  وتكاد تكون جميع عناصره (النقطة ، الخط، الشكل والمساحة، الملمس، اللون، الظل والنور ... إلخ) ، الداخلة في صياغة نصه البصري تكون على مسافة واحدة من الفنان أولاً ومن متلقيه ثانياً، وهذا ما يمنحه القيمة وكذلك للسطوح.  وهنا تبرز القوة العاطفية لدى رحيمو، هذه القوة التي قد تحمل مفاتيح سره والتي تجعله يمنح اللون والخط الدور الأهم في بناء فضاء متكامل فيه من التوازن ما يجعله يتخطى الأطر التقليدية للعمل الفني، وفيه من الإنسجام ما يجعله يغني آفاق عمله.  فرحيمو يستخدم اللون والخط كإنعكاس لعوالمه الخيالية والحلمية بوصفها مادة تشكيلية جمالية للتصريح عن تناغمات القيمة الحيوية لمفرداته والتي بها يسعى إلى التحرر من عبء الوسائل التقليدية وتخطي الواقع بتحديد أُطر زخرفية لصياغاته التأليفية.  وهنا كان لا بد من الكثافة الخطية واللونية بغنى تقنياته وتنوعها حتى تتحول إلى مرآة تعكس عوالمه الداخلية من القلق وسواه، كل هذا ورحيمو يأبى أن يتخلى عن التقاليد الأكاديمية، كما يأبى أن يكون خاشعاً لها، فهو يخلق نوعاً من التوازن الإيجابي المثمر بينهما، وهذا يجعله يوثق إلى حد بعيد الصِّلة بين العناصر حيث الإرتباط على أشده، بعيداً عن التشتت، كما يوثق الصِّلة أيضاً بين الفنان وعمله وهذا يسهم كثيراً في التمهيد لإنبعاث جديد فيه يبحث عن قيم جديدة ، بتناغم جديد . هنا ونحن نحتفي برحيمو في معرضه الجديد المقام حالياً في المركز الثقافي في أتيربيك ببروكسل / بلجيكا والممتد بين 22-11-2019- 6-11-2019 كان لا بد من الذاكرة أن تعيدنا إلى معرضه الأول في عامودا عام 1991، فلم ينس أهل عامودا ذلك.  فما إن تخرج رحيمو من جامعة دمشق، كلية الفنون الجميلة حتى أبى إلا أن تكون مدينته عامودا التي ولد وكبر فيها النافذة التي منها سيطل على الساحات الواسعة للفنون التشكيلية وفي كافة الأرجاء، الوفاء فيه دفعته أن يرد لهذه المدينة جزءاً من مستحقاتها كانت تنام في ذمته، فيها أحب وتألم، فيها فكر ولوّن، وفي شوارعها ركض حافياً، وفي بيوتها الطينية الواسعة كقلب أهلها كان يتحدث عن الفن عامة، يتحدث عن المسرح، عن الرسم، فكان من الطبيعي أن تكون منها ولادته الثانية.  فالذي يكسب الروح والضوء والماء من هذه المدينة لا يمكن أن يكون جاحداً بحقها، ولهذا كانت إنطلاقته منها وبإصرار منه، فتحول معرضه إلى تظاهرة فنية، الجميع يرغب في الحضور وبفرح، محتفين بإبنهم الذي لم تقلم أجنحته كل أضواء العاصمة دمشق .  أقول لم ينس أهل عامودا ذلك المعرض /التظاهرة، حين إكتظت أزقتها بالحضور، كباراً وشيوخاً، نساء وأطفالاً، مشهد لا يمكن أن تنساه عامودا، ولا يمكن أن تمحى من ذاكرة المدينة، وهذه نادرة الحصول، في وقت كان تعليق صورة شخصية قد يعرضك للإنتقاد.  عامودا إحتفت برحيمو، ورحيمو كان وفياً ومحباً لها ، هل سيعيدها ثانية ، لكن هذه المرة ذهبت عامودا إليه، بأمكنتها، بوجوه أهلها التي اكتستها اليباس، بحزنهن ويتمهن، بعويلهم وبكائهم، بروح مغامراتهم الفردية، لكل هؤلاء نافذته في أعماله، النافذة التي اشتاقت لهم كثيراً ، تنتظرهم ليوقظ فيها الروح من جديد . فيما مضى ورحيمو يذهب في مشروعه البصري نحو آفاق لا مرافىء لها، يقترب من خصوبة التراب، يستدعي الحكايات ويسترسل بسردها، ينشغل عليها، ويمضي بها مسافراً نحو مجالات مبتكرة، مجالات ذي معطيات ومؤثرات بها ندرك أهمية تلك الحركات بإيماءاتها ذي الفعل الجمالي والتي تمنح مشهده كمّاً من العلاقات فيما بين مفرداته أولاً، وبينه و بين متلقيه ثانياً.  فنقطة اللانهاية التي يمشي إليها رحيمو بتجربته تشير إلى تأسيس سلسلة من دلالات الأشياء داخل دائرة الفعل الجمالي، فلا حدود فاصلة بينها، فكل دلالة منها، بحركتها، برغبتها، بإدراجها ضمن الكل، هو إنجاز بحد ذاته، ووجه آخر من كسب الرهان . رحيمو يوظف ألوانه في أقصى طاقاتها الإبداعية/الإيحائية، وهذا يزيد من حيويتها وكأنها في حالة حياة دائمة، ورغم أنها بقيت أقصد ألوانه مشبعة برائحة وجه الخبز وكأنها خارجة للتو من تنور لا يهدأ النار فيها، إلا أن ثمة وهج تشع منها، وهو قادر أن يحولها مع السماكة التي تتصف بها وتغري المتلقي كثيراً في الإقتراب منها وقراءتها على نحو أعذب، إلى شكل من ممارسة مقولات حداثية، فيها من القوة ما يجعل الباب والنوافذ مفتوحة على آخرها كشكل آخر من التمسك بمروياته اللونية تلك، كشكل آخر لممارسة حداثته هو، لذلك ومن باب إستخدام تعابير لا تفيد الحصرية بل الإطلاق، تعابير تتجاوز كفعل تلك الأسئلة الإشكالية الكبرى بوصفها مسارات نحو مستويات لحركة إنتاج الجمال، السعي إليها يحتاج إلى المواءمة مع التحولات العصرية الكثيرة.

مشاركة :