عندما كانت سيدة فلسطينية تتوجع بعد أن أتاها الطلق أواخر شهر اغسطس/آب المعروف بصيفه اللاهب بالقاهرة في حي السكاكيني صرخت زهوة مع صرخات طفلها الذي خرج إلى الوجود يوم 24 اغسطس/آب، لم تكن تدري وزوجها الحاج عبد الرؤوف لحظتها أن العالم كله سيبكي بدموع الدم وتنكس الاعلام في عدد من الدول العربية بعد 75 عاماً من ميلاد طفلها هذا، في مثل هذا اليوم (11- نوفمبر 2004)، وأن وسط رام الله سيكون ممتلئاً بالباكين والباكيات، وان قطاع غزة ويافا وحيفا ستكتسي بالسواد ويصرخ الجميع فيها ولكن هذه المرة باكين مودعين طفلها محمد الذي صارت كنيته أبو عمار بعد أن كبر وشغل الناس والدنيا، وصار رمزاً للقدس وشجر الزيتون وللقضية الفلسطينية بكوفيته المخططة بالأبيض والأسود، وتمنطقه بمسدسه المشهور، الذي لم يخلعه طوال حياته الا عندما خاطب الأمم المتحدة كأول زعيم لحركة نضالية وليست بدولة في سابقة لم تتكرر أبداً مذاك اليوم. أمواج عاتية ابحر عرفات ورفاقه بالقضية الفلسطينية في أمواج عاتية اجتاحت العالم العربي بداية من هزيمة 1967، وتشتت عدد من منظمات المقاومة الفسطينية، ثم اتت أحداث معركة الكرامة التي استبسل فيها عرفات ورفاقه وحققوا أول نصر على العدو الصهيوني الذي انسحب تاركاً جثث قواته وآلياته ليصعد نجمه ويتصدر غلاف مجلة التايم الأمريكية يومها، وقد كان ذاك أول اعتراف دولي غير مباشر به كزعيم للقضية الفلسطينية، ثم انتخابه عام 1969، لرئاسة منظمة التحرير، التي كانت تضم عدة تنظيمات فلسطينية، ليشرع في وضع أسس المقاومة ببعديها السياسي والعسكري، ويشن مقاتلوه العديد من العمليات ضد الجيش الصهيوني، وتوسع نفوذ المنظمة في الأردن، ثم تواترت الأحداث وتوترت بعد حادثة خطف الطائرات، وأتت احداث ما عرف باسم ايلول الاسود، ليغادر بعدها إلى لبنان واستطاع ان يتمدد بالمنظمة هناك التي صارت شوكة في خاصرة الكيان الصهيوني، واتى اتفاق السلام بين السادات وإسرائيل، والذي عارضه ابو عمار بقوة وجر عليه الكثير من الويلات، إلى أن اتى عام 82 الذي شهد اجتياح إسرائيل للأراضي اللبنانية، وقاد عرفات بشكل مباشر فصائل المقاومة التي تصدت للعدو ببسالة، ولكن حداثة اسلحة الاحتلال قادت إلى حصار بيروت، وحبس العالم انفاسه خوفاً على حياة الزعيم ابو عمار الذي كان يقود المعارك من داخل بيروت المحاصرة، التي ظل العدو يقصفها بقوة، وصار الموت يسير في الطرقات، وفضل ابو عمار انقاذ حياة اللبنانيين والخروج بعد اتفاق قضى بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، مع ضمان أمن العائلات الفلسطينية، ليتنفس بعدها كل محبي القضية الصعداء وهم يشاهدون عرفات يلوح بيديه من سفينة فرنسية مع كثير من جنوده، متجها إلى تونس الخضراء التي أعلنت موافتها على استضافته. سياسي من طراز فريد شهدت حياة عرفات ثلاث محطات سيخلدها له التاريخ، فبفضل قيادته استطاع الحصول على اعتراف الجامعة العربية بمنظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين في قمة الرباط وهو ما قاد إلى مخاطبته في حركة نادرة الحدوث للجمعية العامة للأمم المتحدة كأول شخص من منظمة غير رسمية يتاح له ذلك، ثم أكثر اللحظات توهجاً في حياته عند اعلانه استقلال فلسطين من جانب واحد عام 88، وبكى الجميع فرحاً معه، وهو يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للامم المتحدة التي انتقلت بفضل ضغوطه إلى جنيف كأول مرة تغادر فيه الأمم المتحدة مقرها، وفي جنيف أعلن ابوعمار خطابه ومبادرته للسلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، والتي تعتمد اقامة دولة فلسطينية تعيش إلى جانب إسرائيل وهي التي فتحت الطريق أمامه للحوار مع حكومة رونالد ريغان وقادت لاعطاء فلسطين موقع مراقب في الامم المتحدة لكن إسرائيل مع ذلك رفضت حضور المنظمة كممثل للشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد في نهاية 1991. سقوط الطائرة يفتح الطريق تسمر الجميع أمام موجات الراديو وشاشات التلفاز عام 92 عندما سرى نبأ تحطم طائرة كان يستقلها عرفات في الصحراء الليبية وعمت الافراح بعد العثور عليه حياً وبعدها اضطرت إسرائيل عام 93، إلى التعامل مع المنظمة وانخرطت معها في مفاوضات سرية، أسفرت عن الإعلان عن اتفاقيات أوسلو واعتراف عرفات رسمياً بإسرائيل واعترافها هي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وهو ما قاد إلى اتفاق السلام الذي حط بموجبه ابو عمار في رام الله ليؤسس السلطة الفلسطينية على بعض من أرض فلسطين ويمنح اثر ذلك جائزة نوبل للسلام وبعدها في أول انتخابات مراقبة دولياً فاز بمنصب الرئيس لكن بعد فترة حاول الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الضغط عليه للتوقيع على اتفاق نهائي ولكن عرفات رفض ووصف الاتفاق بأنه منقوص ولا يلبي السقف الذي يطمح له الفلسطينيون وهو اراضي عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. حصار اللحظات الأخيرة اندلعت الانتفاضة الثانية في هذه الاجواء، واتهمته إسرائيل بانه يدفع من الخلف بتوسيع نطاقها، مستدلة بشعاره (على القدس رايحيين شهداااء بالملاييين) المطالب بالقدس الشرقية، وفي هذه الأثناء ازداد العنف والعنف المضاد، لتحاصره القوات الإسرائيلية داخل مقره في المقاطعة مع 480 من مرافقيه، ورجال الشرطة الفلسطينية، وهكذا بدأت حالة من المناوشات التي اقتحم خلالها الجيش الإسرائيلي (المقاطعة)، وصار يطلق النار هنا، ويثقب الجدار هناك، بينما كان عرفات صامدا في مقره متمسكا بمواقفه وتقاطر على مقره بالمقاطعة مئات المتضامنين الدوليين المتعاطفين معه. وظل أبو عمار صامداً في مبنى المقاطعة صمود الجبال الراسيات إلى أن جاء يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول 2004 حيث ظهرت أولى علامات التدهور الشديد لصحته، وعانى ضعفاً عاماً وتقلباً في المزاج فعانى من تدهور نفسي وضعف جسماني. وظلت كاميرات التلفاز تنقل لحظة بلحظة أخبار صحته وتدهورها، والتي استمرت في ظل صلف إسرائيلي يرفض مد يد العون له، إلى أن وصلت حالته الصحية مرحلة متأخرة جداً، لينقل بعد ذلك في 2004 على طائرة إلى مستشفى بيرسي في باريس، وفي 29 أكتوبر 2004 ظهر الرئيس العليل على شاشة التلفاز مصحوباً بطاقم طبي، وقد بدت عليه معالم الوهن مما ألم به، وقرعت الكنائس في فلسطين للصلاة والدعاء له، وكذا المساجد، والجميع ما بين مصدق وغير مصدق ان يرحل الزعيم بسرعة هكذا، عندما أخذت وكالات الأنباء تتداول نبأ موته وسط نفي لتلك الأنباء من قبل مسؤولين فلسطينيين، وأنباء تتحدث عن موته سريرياً، وبعد مرور عدة أيام من النفي والتأكيد على الخبر من مختلف وسائل الإعلام، تم الإعلان الرسمي عن وفاته من قبل السلطة الفلسطينية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 ليبكيه احرار العالم بالدمع الغزير مسيحيين ومسلمين ويهود محبين للسلام وبعد الرفض المغلظ من قبل الكيان الصهيوني لدفنه في القدس التي كانت هي رغبة ابو عمار تم تشيع جثمانه في القاهرة، الذي كان مهيبا وحضره كل الزعماء العرب لينقل بعدها ويدفن في مبنى المقاطعة في رام الله وتنطوي بذلك صفحة ناصعة البياض من النضال والثبات على المبدأ. موت طبيعي أم اغتيال تضاربت الأقوال كثيراً حول وفاة ابو عمار، إذ يعتقد جميع الفلسطينيين والعرب بأن وفاته كانت نتيجة لعملية اغتيال بالتسميم، أو بإدخال مادة مجهولة إلى جسمه، فيقول طبيبه الخاص الدكتور أشرف الكردي إن وفاته نتجت عن تسميمه، وطالب بتشريح الجثة، مؤكداً أن تحليل عينات الدم لا يكفي وحده للكشف عن الإصابة بالتسمم، وضرورة تحليل عينات الأنسجة، للتأكد من السبب الحقيقي على وجه اليقين. وتعليقاً على تفاقم النزيف الدماغي لدى عرفات، قال الكردي إن هذا النوع من النزيف ينتج عما يعرف بتكسر الصفائح الدموية، الذي يسببه التسمم، أو الإصابة بالسرطان، أو الاستخدام الطويل والمتكرر للأدوية.واعتبر أن الأعراض التي ظهرت على عرفات أثناء مرضه ربما تكون ناتجة عن الإصابة بنوع من السم الطويل الأجل حيث يرى كثير من المقربين منه ان ابو عمار تعرض لخيانة ودس له السم بشكل أو بآخر قبل فترة وأن السم سرى في جسمه وتمكن منه إلى أن ظهر بعد سنوات من تعرضه له. وتجدر الإشارة إلى أن زوجة الرئيس الفلسطيني السيدة سها الطويل هي المخولة الوحيدة بحسب القانون الفرنسي بالافصاح عن المعلومات الطبية التي وردتها من مستشفى بيرسي والأطباء الفرنسيين، وهي لا زالت ترفض إعطاء أية معلومات لأية جهة حول هذا الموضوع وهي القضية التي ستستمر تخرج إلى العلن وتختفي رغم قرار المستشفى والحكومة الفرنسية الأخير الذي أغلق باب القضية رسمياً ولكنها ستظل حية في قلوب محبي ابو عمار ويوما ما ستتضح الحقيقة.
مشاركة :