تهتم هذه الدراسة في عرض صور التحضر لفنون الأداء في الخليج العربي، التي تعد خزين التراث الثقافي المعنوي المتراكم من بيئات صحراوية وقروية وساحلية. وكما قلنا منذ مفتتح هذه الدراسة إذا كانت البيئات الفائتة من بدوية وقروية وساحلية تشكل حياة جماعاتها ومجتمعها وهويتها، فإن المدن تدمج تلك البيئات بوصفها مرجعيات غائرة وتعيد تأهليها وتشكيلها في لعبة بين الإدماج والنبذ، والطواعية والقسرية، والتشارك والتحيز.. هذه حلقة رابعة. ومن تلك الفنون أيضاً هناك فن الفريسني الذي هو بحسب المؤرخ حمد السعيدان: رقصة بدوية مصحوبة بالغناء، وهي عبارة عن دبكة تقام في الأفراح، وخصوصا أفراح الزواج والأعياد، طابعها الضرب بالقدم بصورة جماعية ويتقابل صفان من الرجال لا يقل الصف الواحد عن عشرة أفراد يتشابكان بالسواعد ويلتقي الصفان حتى يلتحما ثم يرجعان القهقرى وهكذا. وفي الوقت نفسه ينشد الرجال القصائد الشعبية الغزلية والحماسية بسرعة ولحن مندون موسيقى ويتبادل الفريقان ترديد الأبيات حيث ينشدون سطراً ويرد الفريق الثاني بسطر آخر وهكذا. وينقل الباحث عبدالله الدويش نماذج ما قيل فهنا قالت امرأة هذه الأبيات "من فن الفريسني" تتذكر حليلها الذي سار للغوص: "عسى الله يدور الشمالي علينا ليالي طويلة وأحسب وأعد الليالي على الشوق تسعين ليلة" وأشار الدويش، وسواه من الرواة الشعبيين، إلى هذه الأرجوزة تغنيها النساء أيام القيظ عند سفر الغواصين ويتذكرن بها ذويهن: يا خوي ما أحلى الخشب لزت السيف.. صاجة كلها صبيّان تجر المجاديف.. صاجة يا الصاجة يا الصاجة ويا ما صدقتي صاجة وهذه الأرجوزة تغني بها الفرق النسائية في أواخر أيام الغوص "القفال" على ساحل السيف وهن بانتظار عودة السفن الشراعية إلى البلاد، وهذا اليوم عند أهل الكويت والخليج العربي يعد مثل أيام الأعياد بالسنة: "توب توب يا بحر أربع وخامس شهر جيبهم خاطفين بجيبهم ما تخاف من الله يا بحر أربع وخامس شهر" وقد تناولت صيغ الاندماج بين الأعراق والهويات المختلفة في هذه الفنون يمكن استرجاعها من كتابي "سحارة الخليج" 2006: .. ترى هل يعرف أن كثيراً من النواح يسكن شواطئ الخليج المقهور بأعرابه الكرام..، لن تكلَّ سناء تشدو بكل جسدها النحيل المغطَّى بالتور اللباس ذي الأكمام الواسعة المفتوحة لكل نسمات الدنيا والشعر الطويل الذي يكشف درس الحرية، المزين بالمطرَّز بذهب سُعاة الحياة الممكنة، على إيقاع العاشوري - ردحة: "سامِعِ الصُّوْتِ صَلْ عَلَى النبي" .. هذا المشهد الذي رقي لدى قاسم حداد في أحد تولُّعاته من أسْفَار"وجوه -1997": "تقِفُ النساءُ في السَّاحِل. غارساتٍ أطرافَهُنَّ في الرَّمْلِ، يرْقُبْنَ معادِنَ تَطْفُو عَاريَةً. غيْرَ عابئة بنسْلِها المَهْدُوْر في الرَّمْلِ. معادِنُ ارْتعشَتْ منها الأوداجُ والفرائِصُ في دُكْنةِ اللَّيْلِ، دافِقَةٌ ماءَها ليطْلُعَ النسْلُ مثل السَّنابل. نساءٌ مأخُوْذَاتٌ بالبَحْر، وهو يأخُذُ الرِّجَال.. .. تتهادى إحدى السَّمْرَاوات من جوف أفريقي تتلقى البحر بالتعاويذ والقرابين.. سأورد هنا المشهد التمثيلي الذي قام به البنات في لوحة القفال: "الكاهنة (12): يا بنيات، هذي مَلَّة الحَلول.. أحِلَّه..؟ النساء اللاهفات: حِلِّيه..! الكاهنة: هذي السعفة أكْويه..؟ النساء اللاهفات: إكْوِيْه..! الكاهنة: هذي قْطِيْوَةْ وليدي أغطِّسها..؟ النساء اللاهفات: غَطْسِيْها.. الكاهنة: ادعوا الله عسى يرجع وليدي وأهلي سالمين.. قولوا: آمين!.." جميعهن يتحرَّكْنَ ويتطلَّعْنَ إلى البحر بكفوف تمد الحواجب مناظير: "جوا الغواويص.. قبَّل البتيل: زين..زين.."، وتيبِّبُ/ تزغرد النساء: "ألْف الصلاة والسلام عليك يا حبيب الله مُحمَّد.." .. ويُيَبِّبْنَ مرة أخرى، لتطلع أعلى المنارة سناء.. معلنة حالاً احتفائياً تخف الخطى فيه رقصاً رادحاً: "تُوب تُوب، يا بحَرْ.. أربعة والخامس شهَرْ.. جيبهم خاطفين بجيبهم مَا تْخَاف مْنَ الله.. يا بَحَرْ..؟! تُوب تُوب، يا بحَرْ.." .. فهل يتوب البحر؟، أسأل لأبقى مثل سؤال طويل لا حدَّ له يقارع أمواج الخليج الذي يجعلنا بدر شاكر السياب نشدو معه حين يجمع جدلية ما يهب البحر في الحياة من المحار واللؤلؤ من جهة والموت/ الردى من أخرى: "أصيْحُ بالخَلِيْج: يا خَلِيْج.. ..يا وَاهِبَ اللؤْلُؤِ والمَحَار والرَّدَى فيَرْجِعُ الصَّدَى كأنَّه النَّشِيْج: "يا وَاهِبَ المَحَار والرَّدَى.." .. طَقْسُ القفال/ القفول، إلى أيِّ زمنٍ ينتمي؟. أتراتب في عناصره أم تجمُّع عبر عصور..؟. .. هل هذا الزمن قريب..؟. أين نحن من هذا الزمن في سحيق فترته وكيف نصله إن تلاشى..؟ .. ماذا عن "ملة الحلول" أنؤرخها بصناعة الحديد بالعصور الحجرية عصر الكالكوليت المعدني إلى ما قبل خمسة آلاف سنة..؟. وهل ترمز إلى الإنسان الحداد/ صانع الأواني المنزلية..؟. .. ماذا عن "السعفة" اليابسة المصفرة التي يكوى بها ليتوب عن تتويه البحارة صيادي اللؤلؤ؟. وهل ترمز إلى الإنسان الزراعي؟.
مشاركة :