وللكتاب أيضا مواسمه، ولكل موسم مدينته وثماره المعرفية والاجتماعية التي لا تخطئها قلوب وعقول محبيه. سواء كانوا من الناشرين العاملين عليه أو القارئين المغرمين بحرفه وملمسه. معارض تجوب المدن العربية والعالمية شهرا بعد آخر ومدينة تلو الأخرى. وما زلنا نتساءل هل هناك من يقرأ؟ ثم تطور السؤال، بتطور الأدوات، هل ما زال هناك من يقرأ كتابا ورقيا؟ وهنا يؤكد البعض أنه حتى لو اختفى الكتاب بأشكاله التقليدية أو الحديثة، فلن تختفي معارضه وفعالياته باعتبارها حاجة إنسانية ملحة للتواصل اللغوي والثقافي. إذ إن الإنسان اجتماعي بطبعه وقد جبل على الالتقاء والتعارف منذ تعلمه لأول حرف وأول كلمة. متعة الرحلة بقاء معارض معروفة وانطلاق أخرى جديدة كالذي سيعقد في جدة في غضون أسابيع قليلة مطمئن لوجود حد أدنى من المردودين الثقافي والمادي. هذا ما يعتقده الشاب لؤي العصيمي. الحريص على حضور ما تيسر له من معارض الكتاب. مبررا تحمله أعباء تكلفة هذا التجوال بالأجواء والبرامج الثقافية التي ترافق هذه المعارض:"هي فرصة سياحية أيضا إذ لا تخلو هذه الزيارات من اطلاع على معالم المدينة التي يقام فيها المعرض إضافة إلى ما توفره هذه المعارض من فرص حقيقية للالتقاء بالكتاب المفضلين عن قرب. وربما تكون الفرصة مواتية بشكل أجمل حين يصادف وتلتقي بعضا من أصدقائك على هامش فعاليات هذه المعارض". ويختم العصيمي حديثه عن تنقلاته المستمرة صوب معارض الكتاب بالإشارة إلى قاسم مشترك يجمع بين الكتاب والسفر فكلاهما يقول العصيمي: "رحلة ممتعة". جودة التسويق ولكن هذه المتعة من جهة الناشر مرتبطة بتحقيق غاياته التي من أجلها اختار القدوم لمعرض دون الآخر. لذلك يتحدث الناشر محمود الكيلاني بقليل من "الرومانسية" بحسب تعبيره وكثير من "الواقعية" محملا تكاليف الطيران وأعباء الشحن الجوي كثيرا من معاناة اليوم. فليست المشكلة أن هناك من لم يعد يقرأ كتابا ورقيا وليست المشكلة في الطباعة التي لم تعد تكلف الكثير مقارنة بعقود مضت ولكن الكلفة الحقيقية تبقى في الشحن ونوعيته. فحين كانت المعارض متباعدة ومحدودة كان الشحن البحري - المجدي في هذه الحالة - منخفض التكاليف يوفر على الناشر الكثير مقارنة بما يتكلفه الشحن اليوم جوا. ورغم الشكوى البادية على محيا الكيلاني إلا أنه في المقابل يشدد على أهمية التسويق الجيد والبرامج الثقافية والفعاليات الجاذبة للمعرض الذي يختار المشاركة فيه. فبحسب خبرات سابقة يستطيع أن يؤكد أن مستوى الإقبال على معارض الكتاب يتناسب طردا وجودة التسويق السياحي والثقافي لهذا المعرض أو ذاك. قد يختفي الكتاب ولكن لن تختفي معارضه بوصفها حاجة إنسانية ملحة للتواصل اللغوي والثقافي. الكتاب كغيره الكثير من المنتجات لم يعد قادرا على تسويق نفسه بنفسه لذا لا بد من أن يكون هناك في المحيط أو حتى على الهامش ما يرغب ويحفز على الحضور. ويبقى كل هذا الجهد داعما ورافدا لصناعة أكبر. الكتاب جزء فقط منها ضمن منظومة اقتصادية أشمل: "صناعة المعارض". بناء الإنسان الأديب والمؤرخ محمد السالم يؤكد من جهته، "رمزية الاحتفال" وأهميته من ناحية حضارية وشعورية تدلل على العمق الثقافي لأي بلد. ومن هنا يجب أن يكون الاحتفاء بالكتاب مطلبا شعبيا وحكوميا لا يروم الربح بالضرورة، ولا يمنعه، بقدر ما ينسجم وخطط البلاد وتطلعاتها الطموحة نحو بناء الإنسان اقتصاديا وثقافيا. قاسم مشترك يجمع بين الكتاب والسفر .. كلاهما: "رحلة ماتعة". كما ينوه السالم إلى أن ما يأتي على هامش اللقاء في مثل هذه المحافل لا يقل أهمية عن متنه تماما كما هو حال "الكتاب" الذي لا يمكن أن تصل إلى مغزاه وعمقه دون هوامش وشروح تفصل وتوضح. لذلك كان للبرامج المصاحبة والفعاليات بالغ الأثر وعظيمه في الانطباع العام وفي التقييم النهائي حين نميز معرضا عن آخر. ويبقى الكتاب، بعيدا عن إشكالات التواصل وأدواته، المتقدمة والمتأخرة، رمزا لشغف الإنسان وفضوله ودلالة على ما وصل إليه من علوم ومعارف؛ وصول يستدعي الاعتراف بفضل الكتاب، تكريما لما فات وتقديرا متطلعا لكل ما هو آت.
مشاركة :