جبار المشهداني ممثل ومخرج وإعلامي وشاعر عراقي، وهو إلى جانب كل ما سبق ناشط سياسي، التقته “العرب” في تونس على هامش فعاليات أيام قرطاج المسرحية في نسختها الثانية والعشرين المنتهية الأحد، فكان هذا الحوار الذي تحدّث فيه عن واقع المسرح العراقي خاصة والمشهد الثقافي في البلد عامة. تونس- هي الزيارة الأولى للممثل والمخرج المسرحي والناشط السياسي العراقي جبار المشهداني إلى تونس، والتي تزامنت مع فعاليات الدورة الثانية والعشرين من أيام قرطاج المسرحية، أين التقته “العرب” للحديث عن المشهد المسرحي العراقي بين الأمس واليوم، وموقع الدراما العراقية في الخارطة العربية، ليشمل الحوار محاور ثقافية أخرى لا تخلو من حسّ سياسي عميق. ويقول المشهداني في رده على سؤال “العرب” حول أسباب زيارته إلى تونس “هي دعوة كريمة من نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي، في سعيه الدؤوب للنهوض بالواقع المسرحي العراقي من كبوته التي طالت، وذلك من خلال العمل على إعادة المسرحيين المخضرمين إلى المشهد بعد انقطاع البعض منهم وهَجْرهم الخشبة، وأنا واحد من هؤلاء”. ويُضيف “نحن بالأساس مسرحيون ولسنا سياسيين، ومكاننا الطبيعيّ هو الخشبة، وضمن هذا التوجّه كانت زيارتي الأولى إلى تونس لمواكبة عروض مهرجان قرطاج المسرحي ومتابعة الجلسات النقدية المصاحبة للأيام، ولأجل تشبيك العلاقات بين مسرحنا العراقي ونظيره العربي، وعلى هذا الأساس كانت مشاركتي في نوفمبر الماضي ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي بمصر في دورته السادسة، حيث كنت أحد أعضاء لجنة تحكيم عروض المونودراما، وها أنا اليوم في تونس تحضيرا لمشاركتي العام القادم في الدورة الرابعة من المهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج”. مسرحة الشعر جبار المشهداني: كل ما يدور في العراق ثقافيا ورياضيا يُشبه العراق والعراقيين يعكف المشهداني منذ أشهر على إخراج عمل مونودرامي بعنوان “عندما دقت الساعة السوداء” عن نص للشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي وتمثيل مازن محمد مصطفى، كما يستعدّ لإخراج عمل مسرحي متكامل مستوحى من ديوانه الشعري “النشيج الوطني” الصادر عام 2012. وعنه يقول “هو نص شعري يلخّص الحالة السريالية التي عاشها العراق زهاء ثلاثة عقود، انطلاقا من الحصار الذي استغرق ثلاثة عشر عاما وما تلاه من احتلال أميركي أزاح الدولة وليس السلطة، مرورا بالحرب الأهلية التي استمرت ثلاث سنوات وما أفرزته من تقاسم للسلطة، وصولا إلى ما يعيشه الوطن اليوم من محاصصة حزبية أنهكت البلد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا”. و”النشيج الوطني” ديوان شعري من ثمان وأربعين قصيدة نظمها المشهداني بين عامي 2007 و2011، وصدر عن دار همسات في دمشق بالتعاون مع مكتبة عدنان للطباعة والنشر ببغداد عام 2012، والذي يقول في إحدى قصائده المعنونة بـ”سأرحل”: سأرحل/ بعيدا عنكم/ دون أن أتمنى لكم/ طيب الإقامة في بلدي/ سأرحل/ تاركا خلفي/ دعوات الأمهات الثكالى/ دموع الأرامل واليتامى/ شاهرا سيف اللعنات/ غارزا إياه في مؤخرات (همراتكم الشاذة)/ سأرحل/ حاملا معي/ الفرات/ كي لا تشربوا منه/ أو حتى تنظروا إليه/ سآخذ كل حمام العراق/ وكل المآذن/ والشارع/ سأحمل أطفاله/ سأعيد كتابة كل ذكريات الأصدقاء/ لن أبقي لكم قصة/ ولا قصيدة/ كل المواويل والعتابة والدبكات/ أرسمها وشما على صدري/ سأبقي لكم/ زقوما/ وحسرات/ وسأوصي نفط العراق/ وتمر العراق/ سأوصي العراق كل العراق/ ابصقهم جميعا/ كي تنظّف رئتيك/ وتُقبل صلاة أبنائك/ ويُجاب دعاؤهم/ وعندها.. سأرحل أيضا”. بهذا النفس الشعري المشوب بالمرارة لما آلت إليه الأوضاع في العراق يقول المشهداني في إجابة عن سؤال “العرب” حول أسباب ارتداد المسرح العراقي إلى مراتب متقهقرة، وهو الذي كان في زمن غير بعيد إحدى القوى الناعمة بالبلد “الصراع السياسي الحاصل على الأرض أنتج واقعا اجتماعيا واقتصاديا مريرا لا يمكن أن يحتويه أيّ نص مسرحيّ مهما اجتهد فاعلوه”. ويُضيف “كنا نحب روايات غابرييل غارسيا ماركيز، صاحب الواقعية السحرية، لكننا اكتشفنا أن ما يدور على أرض العراق أكثر سريالية من أي شيء يُمكن تخيّله”. عروض ساخنة ديوان شعري للمشهداني من ثمان وأربعين قصيدة يعمل على تحويله إلى عمل مسرحي متكامل من إخراجه لا يخفي جبار المشهداني أن في اكتساح وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في ترسيخ ثقافة التفاهة وفي الإنهاء المُمنهج لدور المثقف الحقيقيّ الذي بات في الدرك الأسفل من السلّم الاجتماعي أمام سطوة “البلوغورز” ومن لفّ لفهم، فكسدت البضاعة الثقافية وازدهرت السطحية. وهنا تسأله “العرب” كان بإمكانكم كمثقفين فاعلين وعضويّين وفق طروحات غرامشي توظيف هذه المحامل الافتراضية لصالحكم، فأين أنتم من كل هذا؟ فيقول “قبل عشر سنوات من الآن اقترحت على عدد من الزملاء من العراقيين والعرب إعداد نص مسرحي متكامل يُمكن تقديمه من أماكن مختلفة، تطويعا لهذا الحامل الافتراضي الذي يمكن توظيفه لصالحنا جماليا، لكن لم يكتب للمشروع الاكتمال، وهي فكرة لا تزال تراودني إلى يوم الناس هذا، وقد يكتب لها التحقّق قريبا”. وللمشهداني في هذا الخصوص مبادرات مسرحية رائدة تقطع مع السائد والمتكلس، وهو الذي أخرج في عام 2007 مسرحية “أحزان شارع المتنبي” التي شارك بالتمثيل فيها عبدالخالق المختار وآسيا كمال ورائد محسن وآخرون. أتت هذه المسرحية بعد انقضاء أسبوعين فقط على الحريق الهائل الذي التهم أهم مكتبات شارع المتنبي بفعل التفجيرات العشوائية للاحتلال، الأمر الذي فاجأ الجمهور بسرعة استجابة مسرحه للحدث. وهو ما يسمّيه المخرج العراقي بـ”العروض الساخنة” التي واكبت حالة الغليان العراقي آنذاك، وهي تجربة أسّست لفعل مقاومة فنية للاحتلال من خلال العروض المسرحية التي أعقبها بمسرحيات أخرى منها “المخبر السري” التي أدّاها جواد الشكرجي و”نزول عشتار إلى ملجأ العامرية” التي أدّتها الفرقة القومية للتمثيل، فضلا عن عروض أخرى لجأ في تقديمها إلى التجريب واستخدام تقنيات الإضاءة والصوت وغير ذلك من المؤثرات السينوغرافية، ضمن ما يصطلح على تسميته بمسرح “تشغيل الحواس” لإيصال فكرة العرض إلى المُشاهد حتى عبر حاسة الشّم. وهو في ذلك يقول “المسرح الذي لا يتناول إنساننا والوطن لا يستحقّ التعب”. ويوضّح “إذا كانت معظم العروض المسرحية تعتمد على تشغيل حاستيْ السمع والبصر لدى المُشاهد، فقد عمدت في جل عروضي الإخراجية إلى تشغيل حواس أخرى مثل حاسة الشّم، من خلال بعث الروائح الدالة على خشبة العرض، منها العطور والشواء والحرائق بما وجدته يضفي دلالات على العرض”. أزمة الدراما المسرح الذي لا يتناول الإنسان والوطن لا يستحقّ التعب لأن جبار المشهداني سليل جيل كامل من المخرجين العراقيين الرواد أمثال جاسم العبودي وإبراهيم جلال وسامي عبدالحميد، ومن تلاهم على غرار قاسم محمد وعوني كرومي وصلاح القصب، ثم جيله الذي يضمّ كلا من ناجي عبدالأمير وغانم حميد وحامد خضر وهو، ظل متفائلا رغم نكسات المسرح العراقي في العشريتين الأخيرتين بحاضره ومستقبله، مبرّرا هذا التفاؤل بقوله “هناك اليوم جيل مسرحي شاب أستطيع أن أقول عنه إنه خطير، فهو وريث مسرح صلاح القصب وابن وسائل التواصل الاجتماعي، عيناه تدرّبت على العروض الحديثة، وفكره تشبّع بمسرح الرواد، وعليه فلا خوف على مسرحنا العراقي في قادم التجارب”. في المقابل، وعلى عكس تفاؤله بمستقبل المسرح العراقي، يرى المشهداني أن الأمر مغاير تماما في المشهد الدرامي؛ وذلك راجع إلى العديد من الأسباب أولها سياسي، وهو الذي يجزم بأن الطبقة السياسية الحالية لا يعنيها النهوض بالقطاع الدرامي لا من قريب ولا من بعيد. كما يرى أن هناك أسبابا موضوعية جعلت من الدراما العراقية لا تتجاوز محليتها الضيقة، أولها الحصار الذي شهده البلد على مدى أكثر من عقد، الأمر الذي جعل الفاعلين في القطاع غير قادرين على مواكبة التطوّرات التقنية الحاصلة في مجال الفنون بشكل عام، علاوة على أزمة النص التي ظلت رهينة “السيت كوم” والكوميديا المبتذلة. ورغم ما في الواقع العراقي من غرابة بإمكانها أن تلهم آلاف الكتّاب لإنتاج المئات من الأعمال الدرامية الفارقة، إلاّ أن الورق بقي فقيرا لا يتجرّأ على تناول الثالوث المحرّم -الدين والجنس والسياسة- بالعمق المطلوب. وثانيها الأزمة الإنتاجية، حيث يرى المشهداني أن القائمين على الإنتاج الدرامي في العراق لا يستوعبون فكرة إنتاج مسلسل درامي بموازنة قد تصل إلى عشرة آلاف دولار للعمل الواحد، كما هو الحال في بلدان الجوار وفي جل الأعمال الدرامية الجادة، وكأن ذلك عندهم ضرب من ضروب الفساد وإهدار للمال العام. ويُضيف “إلى جانب كل ما سبق هناك أزمة مُشاهدة، حيث صار العراقي في ظل التنامي التسونامي للفضائيات العربية والسماوات المفتوحة الذي يشهده العالم اليوم ينفر من الدراما المحلية، فالمُقارنة لا تكون لصالحها مطلقا، وكأنّك تُشاهد مقابلة في كرة القدم تجمع بين برشلونة وريال مدريد، لتعود إثرها إلى مُتابعة مباراة محلية في الدوري العراقي، فيغلبك النعاس”. ويسترسل “في النهاية كل ما يدور في العراق اليوم، سواء في الرياضة أو الثقافة أو الترفيه، يُشبه العراق والعراقيين”. الراهن العراقي فيه من الغرابة ما ينتج المئات من الأعمال الدرامية، إلاّ أن الورق بقي فقيرا في تناوله للثالوث المحرّم وحول سؤال “العرب” عن مردّ التباين الحاصل بين قطاع الفنون التشكيلية العراقية التي ظلت رائدة عربيا ودوليا، وبين فنون الدراما والسينما التي تكاد تكون منعدمة، والحال أنه كان بالإمكان الاستفادة من نضج المشهد التشكيلي وتعميمه على القطاع البصري بشكل عام؟ يقول المشهداني “لاحظْ أن جل التفوّق العراقي في مجال الفنون والثقافة، سواء كان شعرا أو رسما أو غناء، هو تفوّق فردي ذاتي وليس جماعيا، وعليه أجزم بأنه من الصعب التأسيس -ولعشرين سنة قادمة- لنهضة سينمائية عراقية، إلاّ إنْ آمن المثقّف العراقي يوما بالتشاركية الفنية وتقاسم الحلم معا”. وجبار المشهداني ممثل ومخرج مسرحي عراقي خريج كلية الفنون الجميلة في بغداد، وعضو اتحاد المسرحيين العراقيين، أخرج للمسرح أكثر من خمس عشرة مسرحية نال عنها العديد من الجوائز في الإخراج والتمثيل والسينوغرافيا، كما نشر العديد من القصص القصيرة في صحف عراقية وعربية، وهو إلى جانب ذلك شاعر وإعلامي وناشط في المجتمع المدني.
مشاركة :