من الحقوق الأصلية للإنسان، إضافة إلى الحق في الحياة والحرية، الحق في المعرفة. وهو حق نابع من حقيقة بديهية ألا وهي أن الإنسان كائن عاقل. والعقل لا يكون عقلا ما لم يعرف، أي ما لم يتحرر من الجهل والغباوة. وبما أن الحق في المعرفة حق أصيل لكل إنسان، فإنه إذن من الحقوق اللازمة التي لا تقل قوة عن الحق في الحياة وفي الحرية وفي التنقل والعمل ونحوها. فالمعرفة غذاء للعقل وبدون هذا الغذاء يكون العقل شاحبا ضعيفا لا يقوى على ما يعتريه من عوار. إن إبقاء الإنسان في حالة الجهالة يعد جريمة أخلاقية وإنسانية.. وهو يشبه منع الإنسان من أهم حاجاته كالغذاء الذي هو قوت البدن ونحو ذلك. قد يستغرب البعض هذا التوكيد على حق المرء في التعرف.. وإليكم الأسباب التي تستجلي حقيقة الأمر وتبين لنا الضرورة القصوى للمعرفة ونوع المعرفة المرادة هنا. أولا، لا يخفى على الباحث في التاريخ والسياسة والمجتمع أن كثيرا من الأنظمة الديكتاتورية والثقافات التقليدية الاستبدادية لا ترغب في نشر الوعي والمعرفة بين الناس لخوفها من حدوث تغيير في الفكر، الأمر الذي قد يؤدي بالضرورة لتغيير في الواقع. وبعبارة أخرى: الوحيد الذي يستفيد من بقاء الإنسان في حالة الجهل واللاوعي هو الطاغي المستبد، سواء على المستوى السياسي أو الديني أو الاجتماعي، بل وحتى التعليمي. والجهل في هذا الوضع هو نتيجة، ليس لقصور العقل أو مناهج المعرفة، بل لعمليات طويلة ومدروسة من التجهيل. على أنه من الضروري معرفة أن التجهيل لا يكون بمنع الناس من المعرفة، بل يمتد لتقديم معلومات مزيفة أو محرفة لهم. وتشويش العقل هو أحد مناهج التجهيل. كما أن تقديم صور جزئية لأحداث تاريخية كلية، مما يمكن تسميته بالبتر، يعتبر كذلك منهجا في التجهيل. على سبيل المثال؛ في بعض المدارس الأولية في الولايات المتحدة تم إدخال مواد لتدريس الأديان الأخرى غير المسيحية، ما دفع ببعض الآباء المتدينين إلى سحب أبنائهم من هذه المدارس، وقد رفضت إحدى المدارس قرار الآباء بالانسحاب؛ لأن من حق الطفل أن "يعرف" وأن حجب المعلومات عنه قد تؤدي إلى قصور في عقله وسذاجة في مواقفه الحياتية، إضافة إلى أن البتر المعرفي هنا قد يقلل من خيارات الطفل الثقافية وينتهي إلى إهدار حقه في الحرية. برأيي أن للطفل الحق ــ كل الحق ــ في أن يعرف ثقافات العالم، وأن يطلع على كل ما يتيسر لعقله من العلوم والفنون والآداب، وأن منعها عنه جريمة كبرى. في مناهجنا التعليمية لا تأخذ ثقافات العالم وتاريخ الأمم وفنون المجتمعات غير العربية وغير الإسلامية مساحات كافية، وهذا نوع من الاعتداء على حق أصيل للمرء، سواء طفلا أو يافعا. ثانيا، المعرفة، بخلاف الجهل، تساهم بشكل كبير جدا في تحديد ملامح الهوية الفردية وتعزيز الشخصية. فمن المعروف أن المرء الأكثر جهلا يكون أشبه بالمجنون أو الأحمق، وخصوصا عندما يخرج من محيطه الثقافي الضيق. أما ذوو الثقافة الواسعة، فهم أكثر ثقة بأنفسهم لأنهم على دراية بكثير من تجارب البشر التي اطلعوا عليها في المدارس وفي ميادين أخرى. إن المرء المطلع لن يكون عرضة لتلاعب الأيديولوجيات الحزبية به ممن يتخذون من الشباب الأغرار وسيلة لتحقيق مآربهم. أخيرا.. يجب التوكيد على أن المعرفة المرادة هنا ليست حصيلة المعلومات التي يكتظ بها الدماغ، بل الأهم من كل ذلك: المهارات العقلية والقدرات النقدية والشعور بالحرية وشجاعة الفكر في تناول أية مسألة من المسائل. فالمعلومات التي لا يصاحبها وعي نقدي جذري صارم ستكون أكثر وبالا على صاحبها من الجهل نفسه.
مشاركة :