ثمة الكثير من الأحداث التي جرت في عالمنا وانتهت بدون أن نسمع عنها أو تترك في نفوسنا آثارها على المدى الطويل. والسبب في عدم ثبات هذه الأحداث في ذاكرتنا، ليس في كونها أحداثا بسيطة وعابرة وغير مهمة، بل لأن التعامل معها تم بحكمة وسرعة قبل أن تتحول إلى أزمات كبرى بتكلفة وأثمان عالية. إن قراءة مثل هذه الأحداث مهمة لدرجة أن إهمالها هو إهمال للتجارب الناجحة، بكل ما تحمله من عِبر ودروس واستنتاجات. وإدراكنا لحاجتنا إلى التجارب الناجحة مرتبط بوعينا لضرورات الوقاية من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية وبأولويتها على ضرورات العلاج. وربما تكون حاجتنا هذه، أكبر بكثير من متابعة الأحداث الكبرى، التي ما كان لها أن تصبح بهذا الحجم الذي اقتحم وعينا بعنف لولا إهمالها وتركها تتفاعل وتتغذى على مركبات الواقع الماثل أمام أعيننا منذ زمن بعيد. خلال العام الجاري 2015، سادت الاضطرابات معظم المدن الفرنسية، بعد أن قرر المزارعون ومربو الأبقار الاحتجاج على تراجع أسعار منتجاتهم وعدم قدرتها على منافسة المواد الغذائية المصنعة، مما حد من قدرة المزارعين على الإيفاء بديونهم للبنوك، ووضع القطاع الزراعي والفلاحين هناك في مواجهة محتملة مع الحكومة الفرنسية، بعد أن عمد المزراعون إلى إغلاق الطرق الرئيسية بالجرارات الزراعية، والتظاهر أمام المكاتب الحكومية الرئيسية في معظم المدن الفرنسية. ومع الأخذ بالاعتبار الأحوال الاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي تمر بها دول الاتحاد الأوروبي، فإن السيناريوهات المحتملة لتصاعد هذه الاحتجاجات لم تكن تبشر بالخير لولا الطريقة التي تعاطت بواسطتها وحدات الاتصال الحكومي مع هذه القضية، مما أدى إلى رسم ملامح نهايتها بمشاركة ورضى جميع الأطراف. إن قراءة هذه التجربة على ضوء ما تمر به المنطقة العربية وعلى ضوء مقتضيات الاستفادة من خطط الاتصال الحكومي، تضعنا أما عدة خلاصات: الخلاصة الأولى: إن تناول قضايا التنمية والاهتمام بالقطاعات الانتاجية الرئيسية في الاقتصاد، يجب أن تكون ضمن أولويات الاتصال الحكومي، فالتنمية ليست حالة مرحلية يتم التطرق اليها عند الحاجة فقط، بل هي أحد أهم عوامل الاستقرار الاجتماعي والسياسي مهما اختلفت الساحات وتباينت الثقافات. إن شعور الفرد بالاستقرار والانتماء لمجتمعه، وأن حقوقه الأساسية في التعليم والصحة والعمل متوفرة وخارج نطاق تأثير مستويات دخله، تشكل بمجموعها ما يسمى بثقافة التنمية التي تحدد مكانة هذا الفرد من المنظومة السياسية والاجتماعية بوصفه مشاركاً ومستفيداً من وجودها. للاتصال الحكومي دور أساسي في تشكل هذه الثقافة وتحويلها إلى وعي جماعي وأساس للعلاقة بين الفرد وبين وطنه. الخلاصة الثانية: إن أسباب الأزمات تراكمية، تتشكل جذورها وتنمو حتى تصل إلى مرحلة التفجر. لذا، فإن المهمة الأخرى التي تفرضها هذه الحقيقة على وحدات الاتصال الحكومي، هو رصد هذه الأسباب ومعالجتها في مهدها ومنذ بداياتها، لأن عامل الوقت هو الذي يحسم النتائج ويحدد مستوى النجاح، خاصة في هذا الزمن الذي تتشكل فيه الأحداث وتتعاظم آثارها بسرعة قياسية. الخلاصة الثالثة: إن تحقيق هذه المهمة يحتاج إلى تنسيق عالٍ بين وحدات الاتصال الحكومي ومختلف مؤسسات الدولة التي ترصد، على ضوء تخصصاتها، التحولات الدقيقة في المجتمع وإلى أين تتجه. قد يكون من الصعب على وحدات الاتصال الحكومي تناول قضايا عالية الاختصاص مثل ما يجري على ساحة دول مجلس التعاون الخليجي من متغيرات اقتصادية، بعد هبوط أسعار النفط وما ترتب عليها من قرارات ومشاريع، بدون تنسيق كامل مع جهات ومؤسسات اقتصادية مختصة. وقد يكون من الصعب عليها أيضاً، رصد التحولات الاجتماعية وتأثير الانفتاح والعولمة على الهوية الوطنية والقيم الأصيلة التي يكتنزها تراثنا، بدون تنسيق كامل مع مختصين اجتماعيين ومؤسسات ناشطة في رصد هذه التحولات. بمعنى آخر، على وحدات الاتصال الحكومي أن تنسق بين كافة الجهات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وحتى تلك المختصة في العلوم الاجتماعية، لتصبح أكثر قدرة على تناول القضايا اليومية للمواطن ومعالجتها بمهنية واحترافية عالية. أما الخلاصة الرابعة من هذه التجربة فهي أن الحكومة الفرنسية، عبر خطابها الرسمي تبنت قضية المزارعين بوصفها قضية وطن وقضية تنمية وقضية مصيرية ولم تتناولها من باب الخصومة مع الطرف الآخر لأنها تدرك أن نتائج هذه التجربة سوف تحدد شكل العلاقة بين المزارعين كأحد أهم القوى الانتاجية في فرنسا وبين حكومتهم. على ضوء تجربتنا العربية، تستوقفنا كافة النقاط المذكورة أعلاه، ولكن للنقطة الأخيرة نصيب كبير في تحليلنا وقراءاتنا. صحيح أن تجربة الاتصال الحكومي في الوطن العربي بوصفها الأداة الرسمية لتشكيل ثقافة التنمية، لا تزال حديثة العهد، لكن أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي أبداً. لم يفت الوقت بعد على أن يتولى الاتصال الحكومي مهمة سد الفراغ بين واقع المواطن العربي وأحلامه البسيطة والمهمة في الوقت ذاته، وعلى توفير الإجابات الواضحة التي تثيرها مسائل هامة حول مستقبل التنمية، ومكانة التعليم والصحة والتوظيف في هذا المستقبل. ولم يفت الوقت بعد على تبني خطاب تنموي يقوم على أساس شرح تفاصيل المسيرة التنموية للمواطنين، وتبيان إلى أين تتجه وما هي مهمات كل فرد وكل جهة في إنجاح هذه المسيرة. لو عدنا قليلاً بالذاكرة إلى بدايات أحداث ما سمي بالربيع العربي في تونس ومن بعدها مصر، سنجد أن كافة الشعارات التي رفعتها الجموع الشعبية، تترجم مطلباً واحدا وهو التنمية. من غير المجدي أن نسأل الآن: أين كان الاتصال الحكومي من تبني هذه الشعارات قبل أن تحملها الجماهير كأداة للصدام بينها وبين السلطة؟ لكن السؤال المفيد هو: هل يستطيع الاتصال الحكومي اليوم، من خلال ما راكم من خبرة وأدوات ومفاهيم أن يعوض غيابه عن الساحة العربية بحضور فاعل ومؤثر على مجريات الأحداث ودفعها باتجاه نهايات تؤسس لبدايات واعدة أم لا؟ برأيي، إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد، ليس فقط مصير الاتصال الحكومي، بل مصير المنطقة العربية بأكملها.
مشاركة :