تشكل السياسة الخارجية أحد أهم مرتكزات وتوجهات الدولة الوطنية أو الدولة القومية الحديثة، لأن أي دولة أو تجمع بشري لا يمكنه العيش في حالة عزلة عن محيطه الإقليمي أو الخارجي, وقد عرفت التجمعات البشرية عبر التاريخ صورا متعددة لأشكال الاحتكاك بالمحيط الإقليمي أو الدولي إما سلما عبر علاقات التعاون والتبادل التجاري والهجرات السلمية بين مناطق العالم المختلفة, وإما صراعا عبر عمليات الغزو والاحتلال وخوض الحروب المختلفة والتي تكون دوافعها واسبابها غالبا أهدافا اقتصادية وأطماعا توسعية. ونظرا للخبرات المريرة والأثمان الباهظة التي تدفعها المجتمعات البشرية نتيجة إشعال الحروب, فقد تبلورت الخبرة الإنسانية في البحث عن وسائل لتجنب الصراعات والحروب. ومن هنا برز دور السياسة الخارجية ليكون هدفها المركزي هو صنع السلام وتجنب الحروب, وعرف التاريخ ظاهرة المبعوثين والرسل والسفراء الذين كان يتم إرسالهم بين حكام الدول بهدف توضيح الحقائق وإزالة أسباب سوء التفاهم بهدف الحفاظ على علاقات حسن جوار يتم تعزيزها عبر مسارات التعاون والتبادل التجاري..الخ وفي العصور الحديثة ازدادت بدون شك الأهمية المحورية للسياسة الخارجية للدول في علاقاتها مع الدول والشعوب الأخرى سواء القريبة جغرافيا, أو البعيدة ولكن المسافات تقلصت بفعل ثورة الاتصالات وحركة النقل البري والبحري والجوي. ومن حيث المفهوم العلمي لمصطلح السياسة الخارجية, يجمع علماء السياسة على أن مفهوم «السياسة الخارجية» إنما يعني مجموعة الأفعال والسلوكيات والوجهات التي تتبعها الوحدة الدولية أي «الدولة» تجاه غيرها من الدول الأخرى أو في الإطار الإقليمي والخارجي بهدف الحفاظ على المصالح القومية للدولة وتطويرها, وأيضا زيادة قوة الدولة في الشؤون العالمية أو الإطار الدولي. أما المفكر السياسي اللبناني «سموحي فوق العادة» فيرى أن تعريف السياسة الخارجية هو: «الخطط السياسية التي تقوم الدول بإتباعها على المدى القريب والبعيد بشأن علاقاتها مع الدول الأخرى بالاستناد إلى مصالحها المشتركة في ضوء الظروف الدولية». أما د. بطرس بطرس غالي أستاذ القانون الدولي والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة فيوجز تعريف مفهوم السياسة الخارجية بالقول: «إنه تنظيم نشاط الدولة في علاقاتها مع غيرها من الدول». ولاشك أن هناك عوامل ومقومات هي التي تحدد طبيعة أهداف وتحركات وسلوكيات الدولة تجاه الدول الأخرى أو في الإطار الخارجي عموما, وتشمل تلك المحددات الأبعاد التاريخية والموقع الجغرافي والتركيبة الديموجرافية والموارد والثروات الطبيعية وغيرها من المحددات التي توفر المرتكزات التي تحدد منطلقات الدولة في تحركها تجاه المحيط الإقليمي والإطار الخارجي. فالموقع الجغرافي مثلا يحدد مدى أهمية الدولة من الناحية الإستراتيجية، ويمكنها من لعب دور إقليمي أو حتى دولي كما يمكنه أن يساهم في بناء قوة الدولة ذاتها. أما الموارد الطبيعية فهي مدى تمتع الدولة بموارد طبيعية هامة كمصادر الطاقة من بترول، غاز، ومعادن كالحديد والنحاس والذهب، ومواد غذائية كالقمح والذرة، توفر هذه الموارد لدى الدولة ولو بنسب متفاوتة يساهم في استقلاليتها الاقتصادية ويمكنها من لعب دور فاعل في محيطها الإقليمي والدولي كقوة اقتصادية وتتمكن من التأثير على السياسات الخارجية للدول الأخرى، كما يمكنها من اتخاذ مواقف دولية تتواءم مع توجهات سياستها الخارجية . كذلك تلعب الهوية الثقافية والقومية للبلاد دورا جوهريا في تحديد أولويات التوجهات الخارجية للدولة وهو ما سوف نلاحظه جيدا في التجربة البحرينية حيث لعبت الهوية العربية الإسلامية دورا محوريا في تحديد أولوية التوجهات الخارجية للبحرين في علاقاتها الدولية. ويلعب الاستقرار السياسي دورا فاعلا في تبلور السياسة الخارجية للدولة، بحيث يعمل هذا الاستقرار على تفرغ الدولة لصياغة سياسة خارجية تحقق أهدافها. كما أن هذا الاستقرار يعطي للدولة صورة حسنة في الخارج مما يساعد على انفتاح الدول الأخرى عليها ما يساهم في حركية السياسة الخارجية لها. كذلك تلعب المحددات الخارجية أو السياق الدولي قي لحظة تاريخية معينة أو ما يسمى توازن القوى في البيئة الدولية دورا أساسيا في تحديد مدى قدرة الدولة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية, فالدولة لا تتحرك في فراغ وإنما وسط سياق إقليمي ودولي تحكمه ضوابط معينة توثر على السياسات الخارجية للدول. إذ يعتبر النسق الدولي أو الإقليمي من أهم محددات السياسة الخارجية للدول. فنمط توزيع القوى ضمن نسق دولي يتسم باستقطاب حاد يصعب على دولة ما تبني سياسة الحياد مثلا. فإذا كان النظام الدولي يقوم على أساس تكتلات ومحاور سياسية وعسكرية, فإن ذلك يدفع واضعي السياسة في الدول الصغرى إلى الدخول في بعض التحالفات لحماية أمنهم القومي، بغض النظر عن ما قد ينطوي عليه من تعارض مع توجهاتهم السياسية العامة, أو الخروج عن بعض المبادئ العامة في السياسات التقليدية لهذه الدول. كما أن هذه التكتلات تساعد الدول الكبرى المنشئة لها في تنفيذ سياساتها الخارجية وفرضها على ارض الواقع، وإرغام الدول الأخرى على تقبلها و الارتباط بها. ولابد من التأكيد هنا أن عالم القرن الواحد والعشرين قد اختلف نسبيا عن عالم القرن التاسع عشر الذي شهد ذروة صعود الدولة القومية في أوروبا والغرب بعد أن أنهت اتفاقية صلح أو معاهدة وستفاليا عام 1648 تلك الصراعات والحروب في القارة الأوروبية التي كانت تقوم على أسس ومنطلقات قومية وفتحت الباب لتبلور الدولة القومية بصورتها الحديثة التي مازالت تهيمن على بنية النظام الدولي, فقد شهد القرن الواحد والعشرين تبلور وصعود قوى ولاعبين جدد إلى جانب الدول ومن هؤلاء اللاعبين الجدد المنظمات غير الحكومية والشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للحدود والكيانات الاقتصادية والسياسية العملاقة مثل الاتحاد الأوروبي وشبكات المجتمع المدني. أهداف السياسة الخارجية للبحرين يمكن القول إنه منذ قيام البحرين بإنهاء المعاهدة التعاقدية مع بريطانيا عام 1971 وبروزها كدولة مستقلة ذات سيادة سرعان ما أصبحت عضوا في الأسرة الدولية عبر الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة في العام ذاته 1971، كذلك نيلها عضوية الجامعة العربية فقد بلورت أهداف سياستها الخارجية التي عمل على صياغتها بالتفاهم والتنسيق الكامل قيادة البلاد آنذاك سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة أول وزير لخارجية البحرين وعميد الدبلوماسية البحرينية وأحد أبرز من شغلوا منصب وزير الخارجية مدة زمنية طويلة في العالم كله حيث شغل منصب وزير الخارجية لنحو 34 عاما متواصلة. وتمثلت أبرز أهداف السياسة الخارجية في عدد من الثوابت لعل من أبرزها: 1- تأكيد سيادة ووحدة أراضي مملكة البحرين على المستوى الإقليمي والعربي والدولي. 2-صيانة وحماية مصالح البحرين الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في الخارج والدفاع عنها. 3- تنمية وتعزيز وتقوية الروابط والعلاقات بين مملكة البحرين وكافة الدول والهيئات العربية والدولية. 4- تمثيل البحرين في المحافل العربية والدولية. 5- دعم القضايا العادلة للأمة العربية والإسلامية والالتزام بالثوابت القومية وفي مقدمتها دعم قضية فلسطين والقدس الشريف. 6- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وتعزيز سياسة حسن الجوار والالتزام بميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية واحترام مبادئ القانون الدولي التي تنظم العلاقات الدولية. خصوصية التجربة الدبلوماسية البحرينية وقد أدت التجربة الخاصة للبحرين كدولة ذات سيادة وتاريخ عريق إلى إعطاء طابع خاص لتحرك البحرين في الإطار الخارجي, فقد جاء ذلك بعد خوض معركة دبلوماسية وسياسية وشعبية قوية ضد الأطماع الإيرانية ومزاعم ومطالب شاه إيران آنذاك الذي حاول استغلال القرار البريطاني في مطلع السبعينيات بالانسحاب العسكري من شرق السويس ومنطقة الخليج العربي في محاولة التوسع الإقليمي والزعم بان البحرين كانت جزءا من الأراضي الإيرانية ويجب إعادتها إلى إيران. وقد دفعت هذه المزاعم الإيرانية السلطات البحرينية آنذاك بقيادة سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة (سمو ولي العهد آنذاك) وسمو رئيس الوزراء آنذاك الأمير الراحل خليفة بن سلمان آل خليفة إلى تحرك عاجل في كل الاتجاهات العربية والإقليمية والدولية لعب فيه سمو الشيخ محمد بن مبارك دورا نشطا, وأسفر ذلك عن عرض القضية البحرينية على الأمم المتحدة التي أرسلت بعثة دولية لتقصي الحقائق ومعرفة إرادة الشعب البحريني واجتمع المبعوث الدولي مع كل الهيئات والمنظمات والجمعيات والنوادي الثقافية والاجتماعية والرياضية التي أجمعت كلها على حق البحرين في رفض ودحض مزاعم الشاه والحكومة الإيرانية، وكان هذا الإجماع الوطني البحريني بمثابة ملحمة وطنية كبرى جسدت بوضوح الانتماء الوطني والعروبي للبحرين بتأكيد عروبتها ودحض الأطماع الفارسية التي تنافي الحقائق التاريخية وعروبة البحرين واستقرار حكم أسرة آل خليفة الكرام لأكثر من 200 عام أو قرنين في حكم البحرين. وقد أدت هذه المعركة الوطنية الكبرى إلى جعل هدف تأكيد خصوصية الدولة البحرينية وتكريس الاعتراف الدولي بها احد الأهداف المحورية للسياسة الخارجية البحرينية. وكان المأمول أن تكون صفحة الأطماع التوسعية الإيرانية قد طويت مع اعتراف شاه إيران بالدولة البحرينية وتبادل السفراء بين البلدين وتبادل الزيارات من كبار المسؤولين بين المنامة وطهران. واعتقد الكثيرون أنه بعد انتهاء حكم الشاه عام 1979, ومجيئ الثورة الإيرانية بزعامة الإمام الخميني التي رفعت شعارات إسلامية أنها سوف تتبع سياسات تحرص على تدعيم الإخوة الإسلامية وتعزيز الروابط بين الشعوب الإسلامية. لكن للأسف سرعان ما تكشفت الأكاذيب الدينية التي رفعها الخميني لمجرد الخداع في البداية من اجل توطيد أركان حكمه, وظهرت الحقائق أنه أعاد إحياء الأطماع التوسعية الفارسية تجاه منطقة الخليج العربي ومجددا المزاعم الإيرانية تجاه البحرين وفق مشروع طائفي مقيت يحاول استغلال العامل الشيعي في المكونات السكانية في دول الخليج بهدف زعزعة الاستقرار في الدول الخليجية عبر تشكيل ميلشيات وخلايا طائفية موالية له بهدف تفجير الأوضاع الداخلية في دول الخليج في مشروع الخميني التوسعي لما يسمى تصدير الثورة. وفي ضوء ذلك أصبح أحد المحاور ذات الخصوصية في تحركات الدبلوماسية البحرينية هو الدفاع الدائم في المحافل الدولية عن تأكيد استقلال البحرين ودحض المزاعم والادعاءات والأطماع الإيرانية تجاه البحرين, وقد برز ذلك بوضوح خلال ثلاث محاولات انقلابية طائفية إيرانية نجحت قوى الأمن البحرينية في إفشالها الأولى في مطلع الثمانينات والثانية في التسعينيات والثالثة في عام 2011. ومازال هذا التحدي قائما أمام الدبلوماسية البحرينية لشرح الحقائق امام المجتمع الدولي كلما تجددت المحاولات الإيرانية المشبوهة لزعزعة الاستقرار في البحرين. إذ يظل المشروع التوسعي الإيراني هو المشروع الأخطر على امن البحرين وامن الخليج العربي, فالمخططات الإيرانية للهيمنة على دول المنطقة من خلال تصدير الثورة مازالت قائمة ومستمرة, وهو ما يظهر بوضوح من خلال التدخلات الإيرانية في شؤون مملكة البحرين الداخلية عبر تجنيد عناصر إرهابية، وتنظيم دورات تدريبية عسكرية واستخبارية، وتهريب الأسلحة والمتفجرات، ومحاولة اختراق النسيج الداخلي من خلال التحريض الطائفي البغيض، ودعم الممارسات الخارجة على القانون، وكثافة الإعلام الموجه والشائعات المغرضة عبر عشرات القنوات التلفزيونية الفضائية والمواقع والمنصات الإعلامية. دوائر السياسة الخارجية البحرينية أولا: محورية العلاقات البحرينية السعودية تعطي الدبلوماسية البحرينية اهتماما وأولوية خاصة بتوثيق العلاقات مع الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية بالنظر للطبيعة الخصوصية التي تميز العلاقات البحرينية السعودية, فهي علاقات ضاربة في أعماق التاريخ تميزت بقوة التواصل الشعبي بين البلدين والعلاقات القوية الممتدة بين العائلتين الحاكمتين في البلدين آل خليفة وآل سعود, فضلا عن الترابط المصيري بين امن البلدين, فأمن البحرين من امن السعودية وأمن السعودية من امن البحرين. وقد تبلور ذلك في عمق التنسيق والتشاور المستمر بين قيادتي البلدين تجاه القضايا الإقليمية والدولية, وتطابق وجهات النظر والمواقف لكل من الدبلوماسية البحرينية والدبلوماسية السعودية تجاه الشؤون الدولية. تتسم العلاقات التاريخية بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين باستمرارية التواصل والود والمحبة بين قيادتي وشعبي البلدين، وتشهد تطورًا مطردًا في كل المستويات انطلاقًا من الثوابت والرؤى المشتركة التي تجمع بينهما تجاه مختلف القضايا، وروابط الأخوة، ووشائج القربى والمصاهرة والنسب، ووحدة المصير، التي تجمع بين شعبيهما، فضلاً عن جوارهما الجغرافي، وعضويتهما في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وجامعة الدول العربية، والعديد من الفعاليات الإقليمية والعالمية. وتشهد العلاقات «السعودية البحرينية» مستوى عالياً من التنسيق في المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية، إذ يتبنى البلدان رؤية موحدة من مختلف القضايا ذات الاهتمام المشترك، فضلاً عن تكامل جهود البلدين في تفعيل العمل الخليجي والعربي والدولي. وأسهم جسر الملك فهد الرابط بين المملكتين في تعزيز الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين البلدين، وساعد في تطور قطاعات السياحة والتجارة في مملكة البحرين, حيث كان لتوجهات قيادتي البلدين دور بارز في تعزيز ودعم التعاون الذي جسدته المشروعات المشتركة وتفعيل سبل تنمية التبادل التجاري والعمل على إزالة المعوقات التي تواجه العمل الاقتصادي وتسهيل انتقال رؤوس الأموال بين البلدين. ويتطلع البلدان الشقيقان مستقبلاً لأن يكون مشروع جسر الملك حمد جسراً موازياً لجسر الملك فهد ومكملاً لمشروع شبكة سكك الحديد الخليجية مما سيعطي دفعة قوية لتعزيز التكامل والتلاحم الاستراتيجي بين الشعبين في جميع المجالات. وتمثل المملكة العربية السعودية بدورها عمقًا استراتيجيًا اقتصاديًا لمملكة البحرين كونها سوقًاً اقتصادية كبيرة أمام القطاع الخاص البحريني لترويج البضائع والمنتجات البحرينية، كما تمثل البحرين امتدادًا للسوق السعودية في ترويج البضائع والمنتجات السعودية، وفي هذا الإطار يضطلع مجلس رجال الأعمال البحرينيين والسعوديين بدور كبير في سبيل زيادة حجم الأعمال والمشاريع المشتركة. وفي المجال العسكري يقف البلدان على مسافة واحدة تجاه كل ما يمس أمن المنطقة والخليج، ويتعزز ذلك الوقوف من خلال اللقاءات الدورية بين القيادات العسكرية في البلدين وكذلك تنفيذ تمارين عسكرية مشتركة بينهما. ثانيا: الدائرة الخليجية تعتبر البحرين من أكثر الدول الخليجية تأييدا وحماسا لتمتين الروابط الأخوية بين دول الخليج, لهذا تساند بكل قوة وعلى كل المستويات إنجاح تجربة مجلس التعاون الخليجي ويشير د. عمر الحسن رئيس مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية من خلال ما جاء في الكتاب الصادر عن سمو الشيخ محمد بن مبارك بعنوان «شهادة للتاريخ» أن مجلس التعاون الخليجي عام 1981، والذي يعد أهم إنجاز سياسي خليجي في العصر الحديث، جاءت فكرة إنشائه بمبادرة من أمير البحرين الراحل الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة»، وكيف كانت لدبلوماسية الشيخ «محمد بن مبارك» المكوكية الذي نقل الفكرة إلى قادة دول المجلس دور كبير في ميلاده، وفي الارتقاء بمستوى العلاقات بين أعضائه في كل المجالات. وتكتسب الدائرة الخليجية أولوية متقدمة في تحركات الدبلوماسية البحرينية، كونها تمثل الامتداد الطبيعي والحيوي للمملكة، وركيزة قوتها واستقرارها. ومنذ بداية عقد السبعينيات بدأ نشاط الدبلوماسية البحرينية في أمور وقضايا المنطقة والتعامل مع أحداثها المتتالية؛ حيث كان قد شارك في الاجتماعات التي مهدت لإعلان اتحاد الإمارات العربية المتحدة من 1968 حتى أكتوبر 1970 من منطلق إيمانه بأن الاتحاد قوة، وأنه الرادع الوحيد لأي أطماع خارجية. إن السياسة الإيرانية التي تقوم على مشروع للتوسع والهيمنة الإقليمية سواء منذ عهد الشاه الذي كان يرمي إلى لعب دور «شرطي الخليج»، وامتدادا إلى مشروع الهيمنة الإيراني في ظل النظام الثوري الذي أسسه الخميني فإن مشروع «تصدير الثورة» الطائفي يعد أكبر خطر يهدد أمن دول الخليج, ومن هنا أهمية تقوية وتدعيم مجلس التعاون الخليجي وقوات «درع الجزيرة» لتكون الدرع وحائط الصد أمام التهديدات الإيرانية في إطار استراتيجية امنية خليجية تعتمد أولا على القدرات الذاتية الخليجية لحماية أمن الخليج, ويواكبها الاستناد إلى العمق العربي واستثمار شبكة العلاقات لخليجية الدولية مع القوى المناهضة للسياسات الإيرانية المشبوهة لحماية الأمن والاستقرار في منطقة الخليج. لذلك فإن الاهتمام بالدائرة الخليجية وتوطيد العلاقات التضامنية الأخوية في إطارها يظل هدفا استراتيجيا وأحد أهم ثوابت السياسة الخارجية البحرينية. ولهذا تواصل مملكة البحرين بذل قصارى جهدها بصفة متواصلة من اجل دعم مسيرة مجلس التعاون الخليجي والعمل على إنجاح كل مشاريعه التكاملية. ولن تنسى مملكة البحرين الوقفة الجسورة لمجلس التعاون الخليجي بقيادة الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية في مساندتها للتصدي للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي خططت لها ودبرتها إيران عام 2011. إذ أعلن بعض قادة التنظيمات الطائفية الذين أشعلوا الاضطرابات أن هدفهم هو قلب نظام الحكم وإعلان قيام جمهورية إسلامية تكون امتدادا لإيران في البحرين. ومن هنا, كان القرار الخليجي بدعم من القيادة السعودية بإرسال قوات درع الجزيرة التابعة لمجلس التعاون الخليجي الى البحرين لمعاونتها في حراسة المنشآت الحيوية والاستراتيجية مما مكن قوات الأمن البحرينية من تحقيق السلامة الوطنية والقضاء على المؤامرة الانقلابية واستعادة الهدوء والاستقرار وإفشال المخطط الإيراني لإشاعة الفوضى في البلاد. وكانت هذه الخطوة الخليجية رسالة إلى كل العالم وكل المتآمرين بأن «أمن البحرين» هو «خط أحمر» ولا يمكن السماح بالمساس به. ثالثا : الدائرة العربية والعالم الإسلامي إن مملكة البحرين بحكم أنها دولة عربية ودينها الإسلام كان لابد أن تعطي الأولوية في توجهات سياستها الخارجية لتعميق الهوية العربية الإسلامية للبحرين والمشاركة بكل نشاط وفاعلية في كل الجهود التي تخدم قضايا الأمتين العربية والإسلامية. وتولي الدبلوماسية البحرينية اهتماما خاصا بدعم مسيرة العمل العربي المشترك، ونصرة القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية العرب المركزية بهدف وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية، وتحقيق التسوية السلمية العادلة والشاملة في الشرق الأوسط بقيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، وعدم التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وينطلق الموقف البحريني في مساندة الحق الفلسطيني من تأييد التمسك بالمبادرة العربية لإحلال السلام ودعم حل الدولتين. وفي الإطار العربي تؤكد البحرين أهمية الحفاظ على المؤسسات الوطنية للدول العربية ودعم الجامعة العربية ككيان مؤسسي جامع للدول العربية, ورفض أية محاولات لتقويض الدول العربية «كيانا وسيادة» لصالح مخططات خارجية مشبوهة، مع الإقرار بحق الشعوب في تقرير مصيرها وتحديد خياراتها، مشيرا إلى أن مملكة البحرين تنشط على مستوى جامعة الدول العربية في مختلف مجالات التعاون العربي، وتدعو باستمرار إلى تدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدول العربية باتجاه تعزيز إمكانيات التكامل الاقتصادي العربي والسوق العربية المشتركة. ويمتد ذلك أيضا إلى دعم جهود منظمة التعاون الإسلامي في نصرة قضايا العالم الإسلامي والتصدي لمحاولات تشويه صورة الإسلام في الغرب في إطار ظاهرة «الاسلاموفوبيا» والحرص على إظهار الوجه الحضاري للإسلام كدين يدعو إلى نشر السلام والتعارف والتقارب بين الشعوب واحترام حقوق الإنسان في كل مكان. رابعا: الدائرة الآسيوية يأتي اهتمام البحرين بالدائرة الآسيوية ليس فقط انطلاقا من كون مملكة البحرين تقع جغرافيا في القارة الآسيوية, حيث إنها جزء من غرب آسيا, ولكن لأن لذلك أبعادا تاريخية وحضارية وواقعية ممتدة حتى الوقت الحاضر. فبحكم العلاقة مع بريطانيا نتيجة العلاقة التعاقدية التي كانت قائمة على مدى نحو 200 عام وحتى عام 1971, سعت بريطانيا إلى ربط دول الخليج كافة بدرة تاج امبراطوريتها في الهند وربط حركة التجارة الخليجية مع الهند, وأدى ذلك إلى تزايد حركة التجارة بين البحرين باتجاه الشرق الآسيوي وخاصة في فترة تجارة اللؤلؤ التي كانت البحرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إحدى أهم مصادرها في منطقة الخليج قبل اكتشاف اللؤلؤ الصناعي. وكانت الهند ومدينة بومباي إحدى الوجهات الأساسية لتسويق اللؤلو البحريني هناك, وقد أدى هذا إلى بروز أنشطة موازية مثل الاتجاه إلى الارتحال إلى الهند من جانب البحرينيين لأغراض أخرى بجانب التجارة مثل التعليم والعلاج، واستمرت تلك التوجهات في مرحلة اكتشاف النفط بعد ذلك. وفي منتصف القرن العشرين ومع الطفرة النفطية والحاجة إلى تطوير قدرات الاقتصاد البحريني, حدث توسع في الانفتاح على الشرق الآسيوي بعد أن أصبحت تلك البلدان المصدر الأساسي للعمالة الوافدة في كل منطقة الخليج وهي العمالة اللازمة لتنفيذ المشاريع العمرانية والصناعية والاقتصادية الجديدة. ومن هنا جاءت ضرورة تعزيز علاقات البحرين مع بلدان مثل الهند وباكستان وبنجلاديش والفلبين وسنغافورة واندونيسيا وماليزيا وغيرها. خامسا: تدعيم العلاقات مع القوى الكبرى فرضت التحديات الأمنية في منطقة الخليج وخاصة التهديدات الإيرانية على كل دول الخليج وليس البحرين فقط ضرورة تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى المهتمة بأمن الخليج وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا في ظل التوافق بين البحرين وهذه القوى على هدف الحفاظ على امن المنطقة وتخفيض درجة التوتر والنزاعات فيها, لتظل شريانا لتدفق الإمدادات النفطية إلى العالم بما يسهم في استقرار وتقدم الاقتصاد العالمي. فهذه القوى الكبرى لعبت دورا أساسيا في كبح جموح التصرفات الاستفزازية الإيرانية وردعها عن تهديد مناخ الامن والاستقرار في منطقة الخليج. وفي اطار هذه المصالح المشتركة تم تدعيم العلاقات بين البحرين وهذه القوى الكبرى، وفي سياق توجهات السياسة الخارجية للبحرين كانت المدرسة الدبلوماسية التي رسمها سمو الشيخ «محمد بن مبارك»، أصدق مرآة للشخصية البحرينية، والتي يمكن وصفها بأنها عروبية براجماتية.. فقد اتسمت هذه المدرسة بسمات الكفاءة والولاء والجد وهي العناوين الرئيسية التي يتم تعليمها لأبنائها من مسؤولي الدبلوماسية، وفيها أيضًا كان الالتزام بالاعتدال والتحلي بالمنطق والواقعية. الابتعاد عن التشنج والشعاراتية والعمل دون اندفاع ولكن بشجاعة حين يتطلب الأمر في اطار من الرصانة والرزانة وتجنب التصريحات الصاخبة او افتعال المعارك الفرعية والتركيز على القضايا الرئيسية وطرق كل الأبواب لتحسين العمل العربي المشترك. وقد سار من تولى منصب وزارة الخارجية من بعده على ذات النهج الذي يحفظ للبحرين سمات دبلوماسيتها الهادئة. وفي هذا الإطار يشير الشيخ خالد بن احمد آل خليفة وزير الخارجية السابق ومستشار جلالة الملك للشؤون الدبلوماسية الى أن سياسة وأولويات مملكة البحرين الخارجية تتسم بطابع المرونة وتخضع باستمرار لتقييم ومراجعات وإعادة ترتيب للأولويات، إلا أنها تلتزم بثوابت رئيسية منذ انضمامها للأمم المتحدة وإلى وقتنا الراهن، ومن أهمها تأكيد سيادة مملكة البحرين ووحدة أراضيها وحماية أمنها والدفاع عن مصالحها وتعزيز مكانتها وسمعتها الخارجية وترسيخ صورتها الحضارية، وتوطيد علاقاتها مع الدول الشقيقة والصديقة وتطوير التعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية. وأوضح أيضا ان السياسة الخارجية للبحرين تلتزم بتبني العمل الجماعي في الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية، وترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية الثابتة في مجتمعنا كالسلام والتعايش والحوار بين مختلف الثقافات والشعوب، وضرورة تسوية كافة المنازعات الدولية بالطرق السلمية والتصدي للتهديدات التي تواجه المجتمع الدولي بأسره ومن أخطرها العنف والتطرف والإرهاب بكل صوره وأشكاله، وسياسات بعض الدول التي تسعى لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة. أما وزير الخارجية الحالي الدكتور عبداللطيف بن راشد الزياني فيؤكد أن مملكة البحرين تتخذ سياسة دبلوماسية خارجية وسطية ومتوازنة، تراعي المصالح الاستراتيجية للمملكة وتكفل تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة والإقليم، مشيرا إلى أن هذه السياسة مبنية على ثوابت تعزز من مصالح الوطن وحمايته والحفاظ على مكانة البحرين المتقدمة على مختلف الصعد في ظل قيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى, وبمتابعة مستمرة من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء. وأوضح سعادته أن من أهم الثوابت التي تستند عليها السياسة الخارجية لمملكة البحرين هي الالتزام بقوانين الدولة والمعاهدات والمواثيق الدولية واحترامها، وبناء علاقات ودية تخدم المصالح المشتركة مع دول العالم، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحل الخلافات بالطرق السلمية، بالإضافة إلى الحرص على أن ينعم الجميع بالأمن والاستقرار. وأضاف الدكتور عبداللطيف بن راشد الزياني قائلا: إن الثوابت الوطنية في السياسة البحرينية تدعمها مبادئ وقيم التعايش، وقبول الآخر، والاحترام المتبادل، والتسامح، والحوار، والانسجام بين الأديان، وهي قيم راسخة في المجتمع البحريني. ولفت إلى أن السياسة الخارجية لمملكة البحرين تقوم على عدة مرتكزات أساسية تحرص الوزارة على ترسيخها، ويأتي في مقدمتها إرساء أسس السلام والأمن والاستقرار العالمي، وتعزيز حماية حقوق الإنسان، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، إلى جانب توفير الحماية الشاملة للبيئة. عهد جلالة الملك والدبلوماسية البحريينة ومنذ إطلاق جلالة الملك مشروعه الإصلاحي في مطلع الألفية الجديدة تشهد البحرين تجربة سياسية نموذجية في المنطقة، كونها فتحت عهداً جديداً في العمل البرلماني والممارسة الديمقراطية وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة, وتشجيع المشاركة السياسية ورعاية حقوق الإنسان ومراعاة الحريات العامة وحرية التعبير وبناء صرح الديمقراطية وسيادة القانون واحترام الدستور، وإقرار الحقوق السياسية الكاملة للمرأة بما فيه حق التصويت والترشيح والانتماء لجمعيات سياسية، وتمتعت الدبلوماسية البحرينية باحترام عالمي حيث تم انتخاب البحرين لرئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة ونالت السفيرة الشيخة هيا آل خليفة شرف رئاسة الجمعية كأول امرأة عربية تحظى بهذا التشريف. وبذلك تساهم المملكة في رسم معالم التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط كافة. وبوصف مملكة البحرين بلداً عربياً إسلامياً، ويقع في منطقة استراتيجية ذات أهمية حيوية للاقتصاد العالمي انتهجت البحرين منذ استقلالها عام 1971 سياسة خارجية محددة المعالم تتسم بالعقلانية والتوازن وتقوم على مبادئ واضحة، وهي سياسة تحافظ على استمراريتها وتزداد إشعاعاً وتأثيراً في المحيطين الإقليمي والدولي. وتنطلق هذه السياسة من طبيعة انتماء المملكة العربي والإسلامي ومسؤولياتها الإقليمية والدولية، حيث لم تدع البحرين سبيلاً لدعم التعاون العربي والإقليمي والدولي إلا وبادرت إليه. من جانبه يشير وكيل وزارة الخارجية رئيس مجلس أمناء مركز «دراسات» الشيخ الدكتور عبدالله بن أحمد آل خليفة إلى بعد مهم في علاقات مملكة البحرين الدولية وهو ما تبلور مع دعوات ومبادرات جلالة الملك بشأن أهمية تلاقي حضارات العالم، من خلال حوار جامع، يفتح آفاقا رحبة للسلام والتعاون الإنساني، وخاصة أن البحرين واحة للتعايش والتسامح لجميع الديانات والفئات. يؤكد الدكتور الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة أيضا أن مملكة البحرين تؤمن بضرورة الربط بين السلام والتنمية، باعتبارهما صنوان متلازمان، حيث رسم جلالة الملك, استراتيجية متكاملة لمواجهة مخططات ومشاريع الفوضى، ترتكز على عملية إصلاح ذاتية مستمرة ومتطورة، تراعي التنوع في إطار الوحدة، وإتاحة وحماية الحريات، وتوحيد الكلمة والصف الوطني، وأن تكون «البحرين أولا» في إطار رؤية متوازنة ووسطية، ترسي مبادئ التسامح والمواطنة، وتحقيق التنمية المستدامة الشاملة، وإطلاق المبادرات التي تستهدف شراكة جميع الفئات كالمرأة والشباب، وتأكيد التعاون الإقليمي والدولي الإيجابي، لنشر السلام والرخاء. موضحا أن البحرين تتطلع إلى بناء نسق أمني إقليمي متوازن، وتحالف استراتيجي فاعل، يتكامل فيه الأمن والتنمية، ويسعى إلى محاربة التطرف والإرهاب بمختلف أشكاله. ويمكن القول ختاما: إن دبلوماسية البحرين تتسم بالحكمة والتوازن، مما جعلها تحظى باحترام وتقدير مختلف المحافل والدوائر الإقليمية والعالمية، حيث تميز سلوكها الدبلوماسي بمجهود متواصل من أجل لعب أدوار طليعية في المنطقة، من خلال نهج سياسة متوازنة وفاعلة، تضع المصلحة الوطنية والقومية على رأس أولوياتها، مبرزة أهمية التعاون بين الدول والشعوب في إطار الالتزام بأسس ومبادئ الشرعية الدولية، متمسكة بضرورة تسوية كل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وحظر استخدام القوة، للنيل من سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي واحترام سيادة الدول الأخرى ومنع التدخل في شؤونها الداخلية وحقها في تقرير مصيرها, وتعزيز الشراكات الإستراتيجية إلى جانب بناء علاقات متنوعة ومتنامية مع مختلف دول العالم والتجمعات الكبرى.
مشاركة :