الإدمان مرض يضرب في جذور النفس والروح الإنسانية. فهو يدمرها نفسيًّا وروحيًّا وليس جسديًّا واجتماعيًّا فقط، وقد انتشر أخيرا بشكل واسع في العديد من المجتمعات العربية حتى أصبح يشكل خطرا كبيرا يهدد فئة الشباب تحديدا التي تزداد بينهم حالة التعاطي، خاصة مع تنوع أنواع المواد المخدرة.. وهذا الكتاب "المخدرات والإدمانات الأخــــــرى.. ما هي وما أسباب تعاطيها وما مضاعفاتها؟" الذي حرره الدكتور إيهاب الخراط أستاذ طب نفسي الإدمان، يشكل دليلا ومرجعا علميا وعمليا مبسطا يجمع ما بين النظريات العلمية الدقيقة، في ما يخص قضية الإدمان والتعاطي، والمداخل العملية التي ثَبُتت فاعليتها في التعامل مع مشكلات الإدمان والتعاطي، حيث يتناول حقائق علمية عميقة بطريقة عملية مبسطة. تطرق الكتاب الصادر عن دار صفصافة لأسباب التعاطي والإدمان، وأنواع المواد المغيرة للحالة المزاجية (المخدرة)، الإدمانات السلوكية، والمضاعفات الطبية لتعاطي المخدرات، والمضاعفات النفسية والتشخيص المزدوج، وقد لفت الخراط في تقديمه إلى أن الكتاب وهو "نتاج عمل فريق التدريب ببرنامج الحرية ـ برنامج تأسس في عام 1989 تنصبُّ أهدافه على المدمنين وتقديم فرصة لهم للتغيير الجذري لنمط حياتهم ـ لسنوات طويلة في جمع وتقديم وتطوير المادة العلمية التي نقوم بتقديمها ويقدمها معنا أساتذتنا وزملاؤنا مثل د.جين لاكور ود.دارف سميث ود تيري ويب ودافيد يارتينغتون واد وماريتزا كوري ضمن عملنا في المدرسة الدولية للتعامل مع السلوكيات الإدمانية. الذي قدمناه بالإنكليزية في أكثر من 7 دورات بداية من عام 2000 واشترك فيها طلبة من أكثر من أربعين دولة ثم بالعربية بداية من عام 2002 في عشرات الدورات لآلاف من الطلبة المصريين والعرب". يتناول الدليل أربعة أبواب رئيسة في جزأين. حيث يتناول الجزء الأول الخلفيات العلمية، والتي تشمل طبيعة ومسببات الإدمان، مع أنواع المواد المخدرة، والسلوكيات الإدمانية الأخرى. كما يتناول المضاعفات الطبية والتشخيص المزدوج. بينما يخصص الجزء الثاني للمداخل المختلفة للتعامل مع السلوكيات الإدمانية. حيث يقدم مداخل مختلفة ومتنوعة لتقديم المشورة والتغيير السلوكي. فنقدم برنامج تيسير الاثنتي عشرة خطوة كمنهج ينظر بنظرة معينة للإدمان باعتباره "مرضًا أوليًّا" وله استراتيجياته ومبادئه في التعامل معه. كذلك المقابلات الدافعية والتي تعد واحدة من أنجح طرق تغيير السلوك الإدماني وهي تعمل على زيادة دافعية الشخص للتغيير. بالإضافة إلى المدخل المعرفي السلوكي، والذي يتعامل مع الأفكار والمشاعر والمعتقدات والأنماط الفكرية الخاطئة والتي بدورها تحبس المدمن داخل دائرته الإدمانية. كما يتناول الباب الثاني أيضًا المجموعات كمدخل مشوري وعلاجي هام. مع تقديم بعض أمراض ومشاكل العائلة وأدوار الأسرة، وتقديم طرق التعامل معها. وإيمانًا بمبدأ « الوقاية خيرٌ من العلاج»، يقدّم عرض مفصل عن كيفية عمل وقاية فعالة للنشء الأكثر عرضة للتورط في السلوكيات الخطرة. وأخيرًا وليس آخرًا، تم الحرص على وضع وتوضيح إطار الأخلاقيات المهنية، الذي فيه تتم تقديم المساعدة بطريقة أخلاقية تجعل من فائدة العميل أولوية جنبًا إلى جنب مع تجنب أي ضرر يمكن أن يقع عليه والسعي إلى العدل والمساوة وتوكيد استقلالية العميل وضمان الولاء له. مع عرض بعض التطبيقات العملية المعاصرة في الواقع المعاش، وإلحاق نص الميثاق الأخلاقي للعاملين بعلم النفس. يرى الخراط أن المواد المُغيرة للحالة المزاجية تبدأ من الكافيين في الشاي والقهوة، والكحول في النبيذ والبيرة، والنيكوتين في السجائر والشيشة، ولا تنتهي بالأفيونات في الهيروين والأمفيتامين في الماكس. وكثيرًا ما يخلط الناس بين استخدام المواد المُغيرة للحالة المزاجية مرة واحدة أو عدة مرات دون أضرار تُذكر، وبين سوء استخدام هذه المواد بما يؤدي إلى ما يسميه العلم حاليًا اضطرابات. فمثلًا الكافيين في القهوة والشاي ومشروبات الكولا يُغير الحالة المزاجية وهو قانوني وشرعي وغير مُحرم دينيًّا. مع ذلك، فإن الإفراط في هذا الاستخدام هو شكل من أشكال سوء الاستخدام ومُصنف بوضوح كأحد أشكال الاضطرابات المتصلة بسوء استخدام المواد المُغيرة للحالة المزاجية. ويقول "قد يصف الطبيب مُهدئًا نفسيًّا مثل الفاليوم لبعض المرضى كمرضى القلب أو القلق، أو مسكنًا قويًّا للألم كالترامادول لمريض كُسِرت ذراعه، أو المورفين لمريض بالذبحة الصدرية. وهذا استخدام مشروع وغير مؤذٍ، بينما الإفراط في استخدام هذه الوصفات الطبية أو استخدام هذه الأدوية دون وصفة طبية هو من دون شك مؤذٍ صحيًّا أو خطر، ويندرج تحت تصنيف سوء الاستخدام. التعاطي لفظ له دلالات قانونية أساسًا، ويُستخدم غالبًا لوصف استخدام المواد المحظور حيازتها واستخدامها. لكن كثيرًا ما يجري استخدامه لوصف أي سوء استخدام. وهو منتشر إعلاميًّا وكثيرًا ما يتم خلط المصطلحات في التقارير الإعلامية". ويشير الخراط إلى أن الاعتمادية لفظ تم تفضيله في الدوائر العلمية لعقود من الزمن، ويصف حالة اعتماد الشخص في تحقيق توازنه النفسي والجسدي على استخدام مادة ما "كحول، أو مخدرات، أو مهلوسات، أو أي مادة أخرى مُغيرة للحالة المزاجية"، ثم الاستمرار في هذا الاعتماد بالرغم من الأضرار، وفقدان السيطرة على الاستخدام، والانشغال الزائد بهذا الاستخدام. وسقط هذا التفضيل عام 2003 واختفى تعبير الاعتمادية تمامًا من الإصدار الخامس للدليل التشخيصي والإحصائي للجمعية الأميركية للطب النفسي DSM-5، وعاد تعبير "السلوكيات الإدمانية" للظهور في هذا الدليل وكنا قد توقعنا هذا منذ عدة سنوات. ونتوقع نفس التغيير في الإصدارات الجديدة من التقسيم الدولي للأمراض ICD التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية. ويحدد معايير تشخيص سوء استخدام (أو تعاطي) المخدرات، لافتا إلى أن استخدام المخدرات على نحو يؤدي إلى مشاكل صحية، أو معاناة تظهر في واحد أو أكثر من المعايير التالية خلال فترة 12 شهرًا. كما أن الاستخدام المتكرر للمخدرات يتسبب في الإخفاق بالالتزام بأعمال وظيفية، أو الغياب المستمر، أو الأداء الضعيف في المدرسة، أو الابتعاد أو الطرد أو العقاب في المنزل، أو إهمال الأطفال أو الأعمال المنزلية. كما يُنتج مواقف خطيرة مثل قيادة السيارة تحت تأثير المخدر، أو تشغيل ماكينة تحت تأثير المخدرات. هذا فضلا عن المشاكل القانونية (الاعتقال أو القيادة بتهور مثلًا). إن الاستمرار في التعاطي على الرغم من المشاكل الاجتماعية أو الشخصية المتكررة أو مشاكل التفاعل مع الآخرين تحت تأثير المخدرات "المشاجرة مع شريك الحياة أو العراك الجسدي". ويتوقف الخراط عند ما يطلق عليه اضطراب ما بعد الصدمة مشيرا إلى أن الدراسات أوضحت أن انتشار تشخيص اضطراب استخدام المواد ولو مرة على مدى العمر يصل إلى 26.6% من السكان بينما اضطراب ما بعد الصدمة إلى 7.9% من السكان. وأن اضطراب استخدام المواد يزيد بين أصحاب تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة إلى ما بين مرتين وأربع مرات من لا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. ويقول أن "تعريف الدليل التشخيصي والإحصائي للجمعية الأميركية للطب النفسي في نسخته الخامسة (2013) للصدمة النفسية هو التعرض لخطر الموت فعليًّا أو تهديدًا أو إيذاء خطيرًا أو عنفًا جنسيًّا، سواء مباشرة أو عن طريق حضور هذه الصدمة حال حدوثها لآخرين أو معرفة أنها حدثت لأحد الأقارب أو الأصدقاء المقربين أو تكرار التعرض لتفاصيل آثار هذه الصدمات بعد حدوثها للآخرين. هذا التعريف قد يستبعد عنصرًا تقليديًّا في فهم الصدمات وهو الإهمال العاطفي والنفسي للأطفال لكن التقسيم الحديث يضع الاضطرابات الناشئة عن إهمال الطفولة تحت عنوانين: اضطراب التعلق الانفعالي واضطراب انعدام الكبح في الاشتباك الاجتماعي. وحول التداخل والتشابك بين اضطرابات الصدمة والإدمان، يقول أن "الصدمات قد تؤدي إلى بدء التعاطي كوسيلة للعلاج الذاتي أو مجرد الهروب من الأعراض المؤلمة. وقد تؤدي الصدمات خاصة العنف البدني أو الجنسي في الطفولة إلى تكوين استعداد داخلي للتعاطي والإدمان. من جهة أخرى تظهر أعراض شبيهة ببعض أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في مراحل الإدمان المختلفة، أيضًا في بعض مراحل التعافي. ويتابع "من شروط العلاج الناجح لاضطراب ما بعد الصدمة تحقيق علاقة آمنة ووضع نفسي مستقر قبل فتح جروح الماضي وتذكرها. ولذا يلزم تحقيق قدر من التعافي من الإدمان لدى المدمنين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة لتحقيق الاستقرار الذي يسمح بالتعامل مع جروح الماضي. لكن في الوقت نفسه أعراض اضطراب ما بعد الصدمة قد تكون من مسببات الانتكاسة. لذا ينصح بالتعامل المباشر "السطحي" مع الأعراض حتى تحقيق التعافي المستقر تمامًا من الإدمان. ويؤكد أن الوجود في مجتمع علاجي آمن يتيح فرصة للاستقرار والتعامل مع صدمات الماضي. أحيانًا يحتاج من يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة إلى مدد أطول في المجتمع العلاجي أو قد يتعرضون لعدة انتكاسات قبل استقرار تعافيهم. ولذلك يجب الحرص على بناء علاقات آمنة طويلة المدى معهم.
مشاركة :