لطالما كان الخط العربي أحد الفنون التي تقاوم الوقوع في براثن النسيان، إلا أنه يعود اليوم للتوهج والانتشار، بعد أن قادت السعودية بالتعاون مع 15 دولة عربية، الجهود المشتركة في تسجيل الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونيسكو. ويجد خطاطون عرب هذه الجهود خطوة مساندة لانتشال الخط العربي من قائمة الفنون المنسية وتحويله إلى أيقونة فنية عالمية، مع كونه رمزاً أصيلاً للهوية العربية، وهو ما يأتي متسقاً كذلك مع مبادرة وزارة الثقافة السعودية «عام الخط العربي» التي حفلت بالفعاليات المدهشة، على مدى عامين كاملين. من اليمن، يوضح خبير الخط العربي زكي الهاشمي، الذي كان أحد الخبراء الذين شاركوا في إعداد ملف إدراج الخط العربي، أن الفنون وتاريخها لها خصوصية متعلقة بالممارسة وهويتها، وتختلف في الحضور حسب الثوب الذي تلبسه ضمن الممارسة. مضيفاً «مر الخط العربي بمراحل شتى وتنقل بين ممارسات مختلفة وتعانق مع الحاجيات بشكل قد لا يجاريه إلا القليل من الفنون فيها». ويتابع الهاشمي قائلاً: «إن الخط العربي حالة نادرة من المعاني فهو يعمل في الحرف الذي رضي الله أن يكون لكتابه وذلك ثقل عظيم، فكيف يستطيع الخط أن يصل إلى مكنون معنى الحرف ولغته من ثم ينظر إلى طرف آخر فيرى متلق يريد أن يرى الجمال بأبعاد نسبية هندسية، ويجلس بين يدي التركيب ليرضى تماس الدائرة أو استقامة السطر، من ثم إذا فاض حديثا بين أولاده من الحروف ليبعث فيهم روح التعايش؛ اشترطوا عليه النسب في هذا التعايش فتزداد المسؤولية وتكبر، وهو مع كل هذا يرتبط بالزمان الذي تحكمه الحاجة». ويؤكد الهاشمي لـ«الشرق الأوسط» أن هذه التفاصيل العميقة لن يهتدي لها عامة الناس ممن يعدونها من جملة المنسيات. ويردف «أن النسيان الذي مر به الخط العربي هو نوع من عدم الاحتواء والاهتمام بشجرة كل أيامها مثمرة تحتاج إلى من يصل إليها، وقد لا يهتدي لها الناس لكبر جدار حاجزها». يتابع الهاشمي «ما عملته السعودية حالياً من جهود رسمية مباشرة وغير مباشرة يعد الأول من نوعه منذ فترة طويلة». مضيفاً، أن «الحراك الذي أوجدته الحكومة في الجانب الفني، له أثر كبير يحتاج إلى جهود المهتمين ليستمر ويتحول إلى مشاريع فيها ديمومة وينتج عنها مدارس وأساليب متنوعة تثري الجانب الفني وتنهض بالثقافة وتؤثر على المجتمع». ويرى الهاشمي، أن الفارق بين الماضي والحاضر يكمن في كشف الستار عن التراث الغني والتعرف على جواهر وعقود الحرف العربي. قائلاً، «نحن اليوم، في واقع ذهبي يحتاج إلى من يستطيع الاستفادة منه، فالخط لم يتغير كونه خط، لكن الاهتمام حاضر من أهل الشأن، فأخرجوا تلك الكنوز إلى عشاقها واجعلوها بين أيديهم واجلوا الوسائل المعينة على كشف كنوزها والاستفادة منها، وهو الجانب المشرق في حياة الفنون، وبه تقوم وتستمر وتنهض». ومن مصر، يوضح الخطاط الدكتور بلال مختار، أن الاهتمام بالكتابة وتطورها بدأ منذ عهد النبوة، لشدة الحاجة إليها في تدوين القرآن الكريم، فضلا عن كونها الوسيلة الأساسية لحفظ الإنتاج الفكري والتراث الثقافي والحضاري للبشرية، حتى صار الخط العربي فناً قائماً بذاته وليس مجرد وسيلة للكتابة. ويستكمل مختار حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالقول، «إن فن الخط العربي رغم تاريخه الإبداعي، أصابه بعض الركود، بعدما عاش فترة ذهبية في الدولة العثمانية ووجد رعاية كبيرة من السلاطين». ويتابع «هناك جهود عظيمة برزت في الأفق من شأنها إعادة هذا الفن الراقي إلى مكانته المعتبرة ومنها: جهود وزارة الثقافة السعودية التي تمثلت في مبادرة «عام الخط العربي» وما تضمنته من فعاليات وأنشطة ومعارض وندوات ودورات استمرت على مدار عامي 2020 و2021». ويشير مختار إلى الجهود المشتركة لـ16 دولة عربية في تسجيل عنصر الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونيسكو بقيادة السعودية، قائلاً: «هو إنجاز عظيم من شأنه الارتقاء بهذا الفن، والحفاظ عليه، والمساهمة في نشره عالمياً، وإيجاد فرص عملية للحوار مع الثقافات العالمية المختلفة». من جانبه، يقول الخطاط السعودي سراج علاف، إن «الاهتمام بالفن دلالة عن ارتفاع مستوى الحضارة التي يمثلها هذا الفن». مؤكداً أن الجهود الرسمية المبذولة من قبل وزارة الثقافة السعودية والجهات الأخرى بصفتها ممثلة المملكة في اليونيسكو، أسهمت في إبراز فن الخط العربي. وأكد علاف لـ«الشرق الأوسط» أن الخط العربي هو رمز من رموز الثقافة العربية والإسلامية، والسعودية تمثل قلب العالمين العربي والإسلامي. مبيناً أن تخصيص عام الخط العربي، لعامين مضت، كان ذكياً جداً في اختيار فن يمثل البلاد ويمثل الثقافة السعودية بكل تفاصيلها. مفيداً بأن الاهتمام العالمي بالخط العربي صار على أعلى مستوى، مع جهود كبيرة لإخراج جيل جديد من المهتمين بهذا الفن. ويتابع علاف «أجزم أن الخط العربي هو فن عالمي، لأن جمالياته تتقاطع كثيراً مع كل الثقافات، ويحمل رمزية عالية جداً للعرب والمسلمين، وهذه الرمزية بإمكانها التنقل في كل مكان من أنحاء العالم». مشيراً أيضاً لكون الخط العربي لا يحتوي تعقيدات ولا يتطلب أن يكون المتلقي ضليعاً في اللغة العربية وفاهماً للثقافة كي يتحسس جمالياته، مكتفياً بالقول «جمالياته واضحة للعيان».
مشاركة :