لا تسعى الروايات التاريخية لتقديم قراءة مطابقة للتاريخ، حتى وإن التزمت بتفاصيله وأحداثه وتقلباته فإن هدفها الأول هو تقديم قراءة مختلفة عن تلك التي يسردها المؤرخون وتتناقلها الوثائق والصور، ولذا غالبا ما نكتشف من خلال هذه الأعمال أوجها أخرى للتاريخ الذي يوضع أمام التساؤلات ليكشف عن كوامنه وما بقي مسكوتا عنه فيه. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي والإعلامي المصري إبراهيم عيسى حول روايته الجديدة “رصاصة في الرأس” التي تتوسل بالتاريخ وتكشف حقائق مثيرة. القاهرة – ثمة لحظات فارقة في التاريخ الحديث تمُر خلسة ونحن لا ننتبه إلى أنها أسست لأحداث عظيمة مهمة، وربما لا نقرأها جيدا ولا نغوص في تفاصيلها، ولا نحاسب أو نحاكم أحدا، وقطعاً فإننا لا نتعلم. في نهار أحد أيام شهر يوليو 1977 دخل شاب جسور بخطوات واثقة إلى مبنى مجلس الوزراء المصري وقدم لمدير المكتب ورقة تحمل بيانا قال فيه إن جماعة “المسلمين” بدأت أولى خطواتها لتأديب العصاة، وتطبيق شرع الله، واختطفت الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف وستقتله على الساعة الثانية عشر من صباح اليوم التالي إن لم يتم الإفراج عن أعضاء الجماعة المسجونين والواردة أسماؤهم في الكشف المرفق، ودفع فدية مئتي ألف جنيه مصري، ونشر كتاب الخلافة لشكري مصطفى في الصحف. وفي مجلس النواب المصري تقدم شاب آخر ببيان مماثل سُلم لمدير مكتب رئيس المجلس، ولم تمض ساعات على هذا التهديد حتى قُتل الشيخ الذهبي برصاصة في رأسه ليهتز المجتمع كله مكتشفا أن أكثر من ربع الشباب منخرط في هذه الجماعة الإرهابية التي تُكفّر وتقتل وتسحق وتزدري وتعادي الحضارة برعاية الدولة. قراءة معاصرة الرواية التقطت أخطر لحظات تاريخ الإسلام السياسي في مصر لتعيد قراءتها بروح جديدة لكشف حقائق هذه المجموعات بدا هذا الحدث المسكوت عنه مناسبا للاستدعاء وملحا للطرح وإعادة التشكيل والتفصيل ليُقدمه الروائي والكاتب المصري إبراهيم عيسى في إطار درامي حي من خلال روايته الجديدة “رصاصة في الرأس” الصادرة قبل أيام عن دار الكرمة للنشر في القاهرة. ويؤكد إبراهيم عيسى أن الرواية التقطت أخطر لحظات تاريخ الإسلام السياسي في مصر لتعيد قراءتها بروح جديدة في محاولة إضافية لفهم جذور العنف لدى الجماعات الإسلامية، والإجابة على تساؤلات تبدو منسية أو مستبعدة عن عمد حول أسباب تمدد هذه الجماعات بهذه السرعة المخيفة. ويوضح عيسى في تصريحات لـ”العرب” أن هذه الجريمة كانت حلقة من حلقات أخطر صفقة صنعتها الحكومة المصرية في تاريخها لمواجهة المعارضة السياسية بالتحالف مع جماعات إسلامية متطرفة، ومنحها الدعم والتمويل والتشجيع للتمكين الاجتماعي والتحكم في الشارع، وهو ما انتهى بقتل رئيس الجمهورية نفسه الرئيس الأسبق أنور السادات. ويضيف أن الجانب الحكومي في صناعة الإرهاب ظل مسكوتا عنه لسنوات طويلة حتى أنه لم يخرج مسؤول مصري واحد يعتذر عن تلك الجريمة النكراء، على الرغم من أن الحكومة نفسها دفعت الثمن باهظا في ما بعد. ويشير الروائي المصري لـ”العرب” إلى أن الواقعة استوقفته وآثارت لديه شغف المبدع الروائي ليطرح من خلالها التساؤلات الأخطر عن شخصية صانع فكر إرهابي عتيد مثل شكري مصطفى، والذي سمحت له حكومات سابقة بالعمل ونشر أفكاره وتكوين جماعته والتمدد بها من دون أي مواجهة حتى تحولت إلى مفرخة ألغام تُهدد المجتمع المصري كله. وذكر عيسى أنه سأل ذاته مرارا كيف وقعت الهيئات والمؤسسات وحواضن الفكر في مثل هذا الفخ، ولماذا ظلت الجريمة مطمورة في الذاكرة، ومستبعدة من التحليل وبعيدة عن إعادة الحساب كل هذه السنوات الطويلة، وهل كان الشيخ حسين الذهبي، ضحية الجماعة وقتها، مفكرا مستنيرا يقاوم الإرهاب وفكر التطرف بالفعل أم كان يُردد خطابا مشابها ومتكيفا مع جماعات الإسلام السياسي؟ ويؤكد لـ”العرب” أن هذه التساؤلات جميعا لم يكن من الممكن طرحها عبر تحقيق صحافي أو كتاب بحثي أو برنامج تلفزيوني، إنما عبر رواية أدبية قادرة على الوصول إلى كافة طبقات المجتمع وجمهور القراءة الأكثر التصاقا بالعمل الروائي. ويقول إن حُسن ظن الكثيرين بجماعات الإسلام السياسي في حقبة السبعينات من القرن الماضي وصل بالمجتمع المصري، وربما باقي المجتمعات العربية، إلى مآس موجعة سفكت فيها الدماء وساد الفزع وتراجعت المدنية. اعتمدت الرواية على أوراق قضية اغتيال الشيخ الذهبي وقضية تنظيم شكري مصطفى وكتابه “الخلافة” وأرشيف بعض الصحف، وشهادات عدد من الشهود الأحياء الذي عاصروا الحدث. ويلفت عيسى إلى أنه من بين أكثر من عشرة آلاف ورقة وعبر عامين من القراءة المتواصلة والتحليل العميق والكتابة المتحررة، خرجت هذه الرواية بكل تفاصيلها، وهو يعلم مسبقا أنها قد تصدم الكثيرين لكنه لا يتعمد ذلك، إنما هي الحقيقة كما هي. صناعة الدهشة وظيفة الرواية الإمتاع وشحذ العقول وصناعة الجمال ويمكن في الوقت ذاته أن تكشف وتحاكم وتفتح الملفات المطمورة في رأي إبراهيم عيسى إن وظيفة الرواية هي الإمتاع وشحذ العقول وصناعة الدهشة وتنظيم الجمال، ويمكن في الوقت ذاته أن تكشف وتحاكم وتفتح الملفات المطمورة عمدا في سبيل مواجهة انحراف الفكر، وفكر الانحراف. ويشدد في حديثه مع “العرب” على أنه مسكون منذ بداية مشواره مع الكتابة بالتاريخ بشكل عام، وعاشق لطرح لحظاته الفاصلة عبر الأعمال الروائية، مؤمنا بأن الواقع في كثير من الأحيان يعد أكثر إدهاشا من الخيال. ويثير بعض ما حدث في قضية الإرهابي شكري مصطفى عواصف عارمة من الدهشة والإنكار التي لا حد لها، على حد وصفه، وقد حدث ذلك في ظل غول كان يتمدد بغموض ويقين لمحو الدولة المدنية. وكان من الغريب في هذه القضية أن يجلس شكري مصطفى نفسه عدة مرات مع مسؤولي أجهزة الأمن متفاوضا وطالبا الدعم والمساندة، والأغرب أنه كان ينال ما يطلبه، ومن المدهش أن الرجل الذي طرح فكرة إنشاء الجماعات الإسلامية على الرئيس أنور السادات وبدأ التجربة في مدينة أسيوط (جنوب مصر) واسمه محمد عثمان إسماعيل كان مسؤولا حكوميا تولى منصب محافظ أسيوط وعمل مستشارا لرئيس الجمهورية، وكانت له كلمة نافذة ولم يحاسب أو يساءل على ما فعل. في الحكاية الحقيقية التي التزمت الرواية بها التزاما حرفيا، هناك أحد أهم مساعدي الإرهابي شكري مصطفى، وهو طارق عبدالعليم وكان ضابط شرطة، وهو الذي أطلق الرصاصة على عين الشيخ الذهبي اليسرى، مرددا عبارة “هنا يسكن الشيطان”. لم يكن غريبا أن نجد بعض الذين تمت تبرئتهم في هذه القضية مشاركين في ما بعد في حادث اقتحام جهيمان العتيبي للحرم المكي الشريف وتم إعدامهم. ويرى عيسى أن التاريخ لا يكرر نفسه، بل نحن الذين نكرره لأننا لا نتعلم أبدا من الماضي، ويقول “إننا لا يمكن أن نعرف المستقبل دون أن نتعلم من الماضي”، متابعا “الذي لا يعرف ماذا جرى لن يعرف أبدا ماذا سيجري”. ويؤكد الإعلامي والروائي المصري لـ”العرب” أن سعيه لقراءة التاريخ تحول إلى منهج حاكم لمعظم أعماله، مُفضلا التعامل معه بعقلية المحقق الجنائي الذي يُخضع كل شخص وحدث لمعيار وحيد هو الواقعية. يرى عيسى أن التاريخ لا يكرر نفسه، بل نحن الذين نكرره لأننا لا نتعلم أبدا من الماضي وتحول الكتابة الروائية التاريخية صاحبها إلى محلل نفسي مهمته إعادة قراءة سمات كل شخص والتعرف على دوافع كل شخص في اتباع سلوك ما في وقت ما، وتبقى عبارات كثيرة لشخوص الرواية قوية وحاضرة وقابلة للاستدعاء للتدليل على ما تواجهه المجتمعات العربية من تغلغل لعناصر التطرف والإرهاب في بُنى المجتمع. وتقول صحافية مصرية في أحداث الرواية تتابع قضية الإرهابي شكري مصطفى لوالدها عندما يعلق بأن أعضاء الجماعة مثل الخوارج “أنا خايفة من الدواخل وليس الخوارج”، في إشارة إلى الخلايا النائمة المتمددة في كثير من الأماكن وفي رؤوس أصحابها تتأجج بين أفكار الإرهاب والتكفير والقتل. ومنها أيضا القول إن كافة كتب التفسير هي كتب إرشادية تحوم حول النص ولا تدخل إليه وأن القرآن لم يتم تفسيره بعد، وهو ما يفتح الباب لفصول متتالية من اجتهاد البشر في سبيل الإصلاح الديني. ويذكر أن إبراهيم عيسى كاتب وإعلامي مصري ولد في قويسنا بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، بدأ حياته صحافيا في مجلة “روزاليوسف”، وأسس عام 1996 جريدة الدستور المستقلة في مصر التي مثلت تجربة جديدة رائدة في مجال الصحافة، وكتب العديد من الكتب والروايات وسيناريوهات الأفلام. ومن رواياته المبكرة رواية “العراة” سنة 1992 التي صادرها الأزهر، ثم صدرت له روايات “مريم.. التحلي الأخير”، “صباح النهايات”، “دم على نهد”، “دم الحسين”، “مقتل الرجل الكبير”، “أشباح وطنية”، “القتلة الأوائل”، “حروب الرحماء” و”كل الشهور يوليو”، فضلا عن كتابة أفلام سينمائية عديدة مثل “مولانا”، “الضيف” و”صاحب المقام“. وحصل إبراهيم عيسى في سنة 2008 على جائزة جبران تويني، كما اختارته رابطة الصحافة البريطانية عام 2011 كصحافي العام، ووصلت روايته “مولانا” إلى القائمة القصيرة في مسابقة الرواية العربية البوكر سنة 2013.
مشاركة :