يعتقد المفكر الجزائري الفرنسي الراحل «محمد أركون»، أن حادثة «تأبير النخل» المشهورة، وحديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم» دليل على أن منهج الدين الإسلامي يقوم على الفصل بين الدين ومناشط الحياة الدنيوية. والحقيقة أن ما ذهب إليه «أركون» وغيره من المفكرين العرب في ربط الإسلام بالعلمانية من خلال هذه الحادثة مسألة فيها 4 نظرات. النظرة الأولى.. أن الرسول الكريم حينما اقترح عليهم طريقة معينة لتأبير النخل، تبين فيما بعد أنها لم تكن الطريقة الصحيحة، لم يكن يتحدث بلسان «الديني» وإنما كان يتكلم بلسان حال دنيويته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال لهم حينما أخبروه بفشل تجربة التأبير المقترحة «إنما أنا بشر مثلكم. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه. وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر مثلكم». وبالتالي فالمسألة هنا فصل للدنيوي عن الدنيوي وليست فصلاً للديني عن الدنيوي كما يراها المتحمسون لمسألة فصل الدين عن الدولة. النظرة الثانية.. هذه الحادثة أقرب لإثبات ديمقراطية الإسلام لا علمانيته، فاتفاق مؤبري النخل على طريقة معينة أثبتت نجاحها في الماضي، وتراجع الرسول الكريم عن «رأيه الواحد» في مواجهة «رأي الجماعة الواحد» يدل على أن ديمقراطية الأغلبية هي من صميم روح رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. النظرة الثالثة.. بالإضافة للديموقراطية الدنيوية، فإن الدين الإسلامي جاء أيضاً «بديموقراطية دينية»، الهدف منها وضع الدين الإسلامي على الطريق الصحيح كلما خرج عن مساره لسبب أو للآخر. وقد نصت الكثير من الأحاديث على وجوب احترام «الديمقراطية الدينية» واعتبارها سفينة النجاة عندما تشتبه الأمور على المسلمين. ومن ذلك قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم ومن شذ، شذ في النار». وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذ، شذ في النار». ومع أن دين الإسلام محفوظ إلى يوم القيامة بنص القرآن الكريم إلا أن الديمقراطية الدينية تقتضي القبول بما تقرره جماعة المسلمين (التي تمثل الأغلبية) في المسائل الدينية المختلف حولها. ولا فرق هنا في أن تكون جماعة المسلمين مكونة من مجموع المسلمين «الاستفتاء العام أو الديمقراطية الشعبية»، أو تكون الجماعة عبارة عن نخبة من أهل الفقه والعلم والحديث، كما يذهب بعض المفسرين «الديمقراطية النيابية». النظرة الرابعة.. العلمانية كما ذكرت في مقالات سابقة كانت تفصل الدين عن الدولة في بدايات نشأتها لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية. كانت العلمانية في بداياتها تمارس حالة من «الطوارئ المدنية» لا أقل ولا أكثر من أجل تخليص الناس من سيطرة الملوك والباباوات. وقد كان عليها بعد أن نجحت في تحجيم تسييس الدين وتديين السياسة أن تتحول إلى نموذج قابل للعيش على الدوام في الظروف الطبيعية. أي تتحول من إجراء يفصل الدين عن الدولة إلى مفهوم يُدخل الدين تحت مظلة الدولة كما رأينا في المقالات السابقة.
مشاركة :