كتبت قبل أيام مقالا تساءلت فيه "من هي بالضبط الدول المتقدمة؟" .. بحثت من خلاله عن العناصر الإيجابية التي تضفي على الدول صفة التقدم والتفوق (كمستوى الرفاهية، والثراء، والشفافية، والديمقراطية، والتفوق العلمي، والتقدم الصناعي).. لم أغفل حتى الجانب الإنساني وضرورة توفر العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية (الأمر الذي جعل النرويج واليابان تتقدمان دول العالم في هذا المعيار).. فحين يتعلق الأمر مثلا بعدالة توزيع الثروة لن تجد أكثر تقدما من النرويج، وأستراليا، وهولندا، وسويسرا، في حين تختفي أميركا تماما رغم أنها تتقدم دول العالم من حيث ضخامة الاقتصاد والمساهمة العلمية والتقنية.. أما حين يتعلق الأمر بمستوى الديمقراطية والشفافية؛ فتأتي النرويج والسويد وفنلندا وسويسرا والدنمرك في المراكز الأولى، في حين تتراجع أميركا الى المركز الخامس عشر، وتختفي تماما دول آسيوية متقدمة كالصين وسنغافورة وتايوان والكوريتين.. على أي حال؛ هناك من حاول لفت نظري إلى تجاهلي لمصطلح "العالم الثالث" وحقيقة أنه أصبح مرادفا للتخلف الحضاري والتأخر الصناعي.. والحقيقة هي أنني لم أنسه ولكنني ببساطة لم أكن أتحدث عنه.. فمقالي السابق كان يحاول استخلاص العناصر الإيجابية (الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصناعية) التي تضفي على الدولة صفة التفوق والتقدم.. أما "العالم الثالث" فمصطلح سياسي بحت مر بكثير من الخلط والتغير خلال العقود الماضية.. فهو في الأصل كان يطلق على الدول غير المنحازة الى العالمين "الأول" و"الثاني" زمن الحرب الباردة.. كان "العالم الأول" حينها يطلق على الدول الصناعية والرأسمالية في الغرب (بالإضافة الى اليابان) في حين كان "العالم الثاني" يطلق على الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية المتحالفة معه.. وبين الاثنين ظهر مصطلح "العالم الثالث" ليشير الى الدول المحايدة أو غير المنحازة إلى أي من الكتلتين (كالهند ومصر وأندونيسيا ويوغسلافيا في ذلك الوقت) كما كان يطلق على الصين التي لم تعتبر حينها من العالم الأول التابع (للرأسمالية الغربية) وليست من العالم الثاني (الذي يدور في فلك الاتحاد السوفييتي)! .. غير أن هذا التقسيم فقد معناه السياسي منذ تفكك الكتلة الشرقية واختفاء منظمة "عدم الانحياز" وتفرد أميركا كقطب عالمي وحيد.. ومع هذا مازالت وسائل الإعلام تخلط بينها وتضيف ما يزيد على حاجتنا من تصانيف السياسة والاقتصاد.. فهي تارة تقسم العالم على أساس إقليمي وجغرافي (كالشرق الأوسط، والشرق الأقصى، ودول حوض المتوسط، ودول جنوب الصحراء الكبرى) وتارة على أساس قاري وجيولوجي (كالقارة السمراء، والقارة الصفراء، ودول الحوض الهادئ، ودول حزام النار، ودول الاتحاد الأوروبي) وتارة ثالثة على أساس تقني وصناعي كدول "متقدمة" و "نامية" - وهو ما يذكرنا بمصطلحي "دول الشمال" و"دول الجنوب" حيث تقع معظم الدول الصناعية في شمال الكرة الأرضية ومعظم الدول النامية في جنوبها.. .. أيضا هناك مصطلحات لا أفضل شخصيا استعمالها كونها تقسم البشر على أساس ديني أو عرقي واضح (مثل دول أفريقيا السوداء، والشعوب الصفراء، والدول الهسبانية، والمجموعة الانجلوساكسونية، والكتلة المسيحية، ومنظومة العالم الاسلامي)! .. وبصرف النظر عن طبيعة التقسيم، تثبت كل هذه المصطلحات تمتعنا بعقلية تقسيمية وتراتبية لايمكن إلغاؤها أو تجاهلها. كما تثبت أن البشر مهما بلغت بهم العولمة والمصلحة المشتركة لا يعدمون وسيلة لتصنيف أنفسهم بأي شكل ووسيلة..
مشاركة :