تفتحت عيناي أول ما تفتحتا على الثقافة المصرية في جميع فنونها وأبعادها. وكانت ميسرة للقارئ أكثر من أي ثقافة أخرى؛ فهي منه على طَرَف الثُّمَام، وأقرب إليه من حبل الوريد، وكان لها حضور طاغٍ وحظوة امتدت عدة عقود من الزمن في القرن المنصرم؛ والسبب في ذلك أن مصر أمسكت بعصا الريادة الثقافية والأدبية في العالم العربي بحكم بيئتها وموقعها وعوامل أخرى هيأت لها المجال الخصب للنموّ الثقافي، ومن أهمها حرية التعبير في الإبداع والنقد، واحتضانها نشر فرائد التراث العربي، وانفتاحها على الثقافات الغربية، وتنامي حركة الترجمة لألوان من الأدب الغربي، وتشجيعها لكل نشاط ثقافي بنّاء. ومن دلائل هذا الامتياز أنها أصبحت منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عامل جذب واستقطاب لكثير من المواهب والقدرات في الأدب والمسرح والصحافة في البلاد العربية، ولا سيما في البلدان التي قطعت شوطاً في هذا المضمار كلبنان وسورية؛ إذ توالى على مصر عدد من المبدعين في فنون الثقافة في مدد متقاربة. وكانت بيئة لبنان وسورية مهيأة لتكون المنافس الأول لمصر في احتضان المواهب، وإيجاد المناخ المناسب لكل حراك ثقافي وأدبي، ولكنها مُنيت بحكم مستبد في نهاية الحكم العثماني، وما سبق ذلك وتبعه من تتريك اللغة، وملاحقة أحرار العرب وعلمائهم ومثقفيهم وإعدامهم وتشريدهم على يد جمال باشا السفاح في أثناء الحرب العالمية الأولى، وما استتبع ذلك من سطوة الاحتلال الفرنسي الغاشم على سورية ولبنان بناء على اتفاقية سايكس بيكو التي عقدت في بطرسبرج (2) بروسيا في شهر نوار (مايو) 1916م (3). وكان له دوره الظالم في التنكيل بأحرار العرب، والحكم على بعضهم بالإعدام غيابيّاً، ومنهم خير الدين الزِّرِكْلي مؤلف الأعلام. لذلك وجد عدد من مثقفي لبنان وصحفييه ملاذاً في مصر التي فتحت ذراعيها لكل صاحب موهبة وإبداع، واحتضنته، وأتاحت له مجال التعبير عن موهبته وإبداعه، فتقاطرت الهجرات الثقافية إلى مصر إلى ما قبل منتصف القرن العشرين بقليل، وبعضها تزامن إلى الهجرة للأمريكتين. ولعل اللبنانيين وجدوا في البيئة المصرية ظرفاً مناسباً، لإصدار الصحف والمجلات التي كان لها أثر كبير في الوعي الاجتماعي والثقافي، وبعض ما أصدروه اكتسب شهرة واسعة، وثبت مع مرور الزمن وتقلبات الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية، كصحيفة الأهرام التي أنشأها سليم تقلا في الإسكندرية عام 1293هـ/ 1876م، وانضم إليه شقيقه بشارة تقلا، وهم لبنانيان من كَفْر شيما(4)، ولا تزال تصدر حتى اليوم، وهي من أطول الصحف العربية عمراً، والمقتطف، وهي مجلة علمية أدبية أنشأها في بيروت د. يعقوب صروف وفارس نمر عام 1876م، ثم نقلاها إلى القاهرة عام 1884م، واستمرت في الصدور حتى عام 1952م، والمقطم وهي جريدة أصدرها يعقوب صروف، وفارس نمر، وشاهين مكاريوس في مصر عام 1889م، ومجلة الهلال الشهيرة التي أصدرها جرجي زيدان في القاهرة عام 1892م ولا تزال تصدر حتى اليوم(5)، ثم صدر معها كتاب الهلال، وأعداده الكثيرة تكون مكتبة ثقافية متنوعة، وروايات الهلال، ومجلة الزهور للأطفال، وصدر عن دار الهلال طائفة من المؤلفات لكبار الكتاب والأدباء. وتتعدد الصحف التي أصدرها لبنانيون في مصر مثل الكوكب الشرقي، والمحروسة، ولسان العرب، والمشير، والبصير(6)، إلى جانب ما أصدره أدباء مصر ومثقفوها من صحف ومجلات كان لها دور رائد وأثر كبير في ازدهار الحركة الأدبية والثقافية في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. واستوطن عدد من المؤرخين والأدباء والشعراء مصر، فشهرتهم وذاع صيتهم أكثر من ذيوعه في بلدانهم التي قدموا منها كجرجي زيدان، وخليل مطران، وحبيب حاماتي(7)، صاحب مقالات (تاريخ ما أهمله التاريخ) الشهيرة، وولي الدين يَكَن (من تركيا) وعادل الغضبان(8)، وأسهموا مع أدباء مصر وشعرائها ومثقفيها في بناء نهضتها الثقافية. وليس هدفي من إيراد هذه الأسماء أن أغض من قيمة أدباء مصر ومثقفيها، بل الهدف أن أدلل على أن البيئة المصرية بانية راعية للمواهب، تشجع كل مبدع، وتفتح ذراعيها مرحبة بكل مثقف قادر على العطاء في ميدان الثقافة الرحب. والقادمون إليها نسبة قليلة تمصّرت، واندمجت في المجتمع المصري، ولا تقارن هذه النسبة بمثقفي مصر وأدبائها وكتّابها وعلمائها وأساتذة جامعاتها الذين اضطلعوا بالقسم الأكبر في بناء نهضة بلادهم، وفي نشر الثقافة العربية والتراث العربي اللذين أمدا سائر الثقافات العربية بروافد خصبة ثرية من العطاء والإنتاج. مَنْ في البلاد العربية يجهل رواد الأدب والشعر في مصر، ومجلاتها الرصينة، وجامعاتها التي خرجت آلاف الطلاب العرب حين لم يكن في سائر البلاد العربية جامعات! استهوتني الثقافة العربية في مصر منذ بواكير دروسي الأولى في القراءة، وأقبلت منذ وقت مبكر أعب من معينها وأتملأ، فقرأت لسائر أدبائها الكبار، وما أعرف أديباً وشاعراً وروائياً وقاصّاً ومؤرخاً في مصر إلا عرفته وقرأتُ له، وكانت الكتب التي تطبع في مصر تأتي إلينا رخيصةً ميسرة، فنقبل على شرائها واقتنائها وقراءتها، ومما يحمد لمصر أنها يسرت سبل الثقافة، وأدنت قطوفها لمن لا يستطيع شراء الكتب الكبيرة، والكتب ذات الأجزاء المتعددة، فأنشأت سلاسل ثقافية وأدبية خفيفة المحمل، زهيدة الثمن، سامية الهدف، ثرية الفكر والمضمون كسلسلة اقرأ التي تصدرها دار المعارف في مصر، كنا نشتري الكتاب منها بأقل من الريال، وكان لطه حسين فضل إنشائها، وأغلى من كتاب: اقرأ قليلاً كتاب الهلال، ومجلة الهلال، وروايات الهلال، ثم توالت سلسلة المكتبة الثقافية، وسلسلة أعلام العرب، وكان الكتاب منها يباع بريال واحد. ومما سبقت به مصرُ غيرها من البلاد العربية أنها أول من نقل منهج المستشرقين الألمان في التأريخ للأدب، وكان الأدب يُدَرَّس في مدرسة دار العلوم التي أصبحت فيما بعد كلية دار العلوم بالقاهرة على طريقة الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وأمالي أبي علي القالي، ونجد نماذج من هذا النوع من الدراسة في كتاب الوسيلة الأدبية لحسين بن أحمد بن حسين المَرْصفي، وكتاب المواهب الفتحية في علوم اللغة العربية لحمزة فتح الله(9). وكان الأستاذ حسن توفيق عبد الرحمن العدل (1862- 1904م) اختير بعد تخرجه في مدرسة دار العلوم عام 1887 مدرساً للغة العربية بالمدرسة الشرقية في برلين؛ لتميزه في علوم اللغة العربية، وإجادته اللغة الفرنسية، ومكث فيها أكثر من خمس سنوات، أجاد فيها اللغة الإلمانية، وأفاد المستشرقين الألمان، وقابل إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، والزعيم الألماني بسمارك (1815- 1898م)، وأنعما عليه(10). وفي ظني أن الأميرة سالمة بنت سعيد ابن سلطان (1844- 1922م) التي كانت تعيش في هامبورج في ألمانيا، وتلم ببرلين أحياناً سعت لمقابلته؛ لحرصها على مقابلة من يفد من البلاد العربية، ولأن علاقتها بامبراطور ألمانيا وببسمارك كانت جيدة، وهذا ظن مني إذ لم تُشِر الأميرة في مذكراتها إلى أنها التقت به، ومما يلحظ فيها أنها خصصت معظم صفحاتها للحديث عن الحياة في قصر أبيها السلطان سعيد (1804- 1856م) سلطان عمان وزنجبار، وعن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في زنجبار التي عاشت فيها نحو اثنين وعشرين عاماً؛ إذْ غادرتها عام 1866م، وقيل: عام 1867م(11). ويذكر الأستاذ أحمد الشايب(12) (1896- 1976م) أن حسن العدل لما عاد إلى مصر أشار على صديقه وزميله في مدرسة دار العلوم محمد بك دياب أن يضع كتاباً في تاريخ الأدب باللغة العربية، على نحو ما فعل المستشرقون الألمان، ودله على المنهج، فألّف محمد دياب كتاباً عام 1897م سماه تاريخ آداب اللغة العربية ويضيف الأستاذ الشايب(13) أن دار العلوم أسندت إلى حسن العدل تدريس مادة الأدب عام 1898م، فوضع كتاباً في التاريخ الأدبي حسن الترتيب، منوع البحوث، على طريقة ما كان يصنعه الألمان، عنوانه: تاريخ آداب اللغة العربية، أرّخ فيه لأدب العصر الجاهلي والإسلامي والأموي، وطبع هذا الكتاب عام 1906م في مدرسة الفنون والصنائع الخديوية بعد وفاته بعامين. ويذكر جرجي زيدان(14) (ت 1914م) أنه أول من سمى هذا العلم، يقول: «أما في العربية فلعلنا أول من فعل ذلك. ونحن أول من سمى هذا العلم بهذا الاسم «تاريخ آداب اللغة العربية» فنشرنا منه فصولاً صدر أولها سنة 1894م في عدد الهلال التاسع من السنة الثانية، وآخرها في أواخر السنة الثالثة، وقد انتهينا فيه إلى تاريخ آدابها في عصر الانحطاط، ثم شغلنا عن إتمامه، ووعدنا القراء بالعود إلى هذا الموضوع، على أن نفرد له كتاباً خاصاً مع التوسع والتدقيق.. فقضينا بضع عشرة سنة ونحن لا تقع لنا شاردة إلا قيدناها، وملاحظة إلا حفظناها وتدبرناها، والقراء يطالبوننا به.. فأعلنا أخيراً عزمنا على القيام بوعدنا، وها نحن فاعلون». عَرَفْتُ بيئة مصر قبل أن أراها عِيَاناً من خلال ما قرأت من روايات وقصص لكبار الروائيين والقصاصين المصريين، وما أكثرهم! وفي طليعتهم جورجي زيدان، ونجيب محفوظ، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وعبد الحميد جودة السحار، ومحمد سعيد العريان، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف السباعي، وثروت أباظة. وتصورت القاهرة القديمة بأسماء أحيائها الشعبية، وحاراتها المتجاورة، وأزقتها الضيقة المتعرجة بما أضفاه عليها السرديون من وصف؛ فقد رسموا للقاهرة صوراً حية شائقة تنبض بالحياة، وتغري بالسياحة، وكنت أتمنى أن تكتحل عيناي بمشاهدة ما ارتسم في ذهني عن القاهرة والبيئة المصرية عامة من صور تمثل بيئة الشرق بإيحائها وأصالتها التاريخية وعفويتها وروعة مشاهدها. كنت - وما زلتُ - أحن إلى القديم، وأرى فيه ومنه صورة الماضي التي تشف عن يسر الحياة، وبساطة العيش، وطبيعة المجتمع بعيداً عن تعقيدات المدنية وتكالبها على المادة ومبالغتها في الشكليات، في حين لا يجذبني في هذه الحياة الحاضرة مبانيها الشاهقة وفنادقها الراقية وسياراتها الفارهة، وأجد في سماحة الماضي وخشونته ويسره متعة أكثر من متعة أجدها في رفاهية الحاضر وليونته. ** ** ** الحواشي: (1) محاضرة أُلقيت في حفل تكريم الأستاذ الدكتور أحمد درويش الأستاذ في قسم الأدب بكلية اللغة العربية في الرياض سابقاً الذي أُقيم في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة مساء يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 14/1/1437هـ - 27/20/2015م، وحضره نخبة من الأدباء والشعراء والأكاديميين. (2) سُميت بعد الثورة البلشفية ليننجراد، ثم عادت إلى اسمها الأول بعد تخلص روسيا من الحكم الشيوعي. (3) تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان (ت 1956م) نقله إلى العربية: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، الطبعة الثامنة، بيروت، دار العلم للملايين، آذار (مارس) 1979م، ص 745- 746. (4) جريدة الأهرام، تاريخ وفن (1875- 1964م). د. إبراهيم عبده (1322- 1406هـ = 1913- 1986م)، القاهرة مؤسسة سجل العرب، 1964م. (5) الصحافة العربية: نشأتها وتطورها، أديب مروَّة، الطبعة الأولى، بيروت، دار مكتبة الحياة، كانون الثاني (يناير) 1961م، ص 178، 196، 197. (6) المصدر السابق: 193، 195، 197، 198، 199. (7) له ترجمة في الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة السابعة، بيروت، دار العلم للملايين، 1986م، 2/165. (8) له ترجمة في الأعلام 3/243. (9) دراسة أدب اللغة العربية بمصر في النصف الأول من القرن العشرين (1320 - 1370هـ) (مواد - مناهج - آثار علمية)، أحمد الشايب، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1966م، ص 5 وورد في الكتاب اسم حسن المرصفي، وهو وَهْمٌ أو سبق قلم. ألف هذا الكتاب عام 1950م، وصدرت طبعته الأولى عام 1952م. كتبه بمناسبة احتفال جامعة فؤاد الأول (القاهرة) بعيدها الفضي عام 1950م. والغريب أن كتاب: جامعة القاهرة في عيدها المئوي، د. محمود فوزي المناوي، القاهرة، المكتبة الأكاديمية، 1428هـ - 2007م لم يتحدث عن هذا العيد، واكتفى بإيراد مقالة لأحمد حسن الزيات، افتتح بها عدد الرسالة 912م، الصادر في 15/3/1370هـ - 25/12/1950م، انظر ص 375، رقم 71، والمقال في صفحة واحدة، ضمن الصور والوثائق المصورة دون ترقيم صفحات. (10) تقويم دار العلوم، محمد عبد الجوّاد، القاهرة، طبعة جديدة صدرت بمناسبة العيد المئوي لجامعة القاهرة (2008م)، القسم الأول، ص 41، 42، 178- 184. (11) كتبت مذكراتها باللغة الألمانية، وترجمت إلى الإنجليزية، ولها ترجمتان عربيتان، الأولى ترجمها من الإنجليزية عبد المجيد حسيب القيسي، وصدرت عن وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان دون تاريخ، وتاريخ مقدمة المترجم 1/8/1974م. وترجمتها د. سالمة صالح (عراقية) عن الألمانية، وصدرت طبعتها الأولى في كولونيا - ألمانيا، منشورات الجمل عام 2002م. والترجمتان يكمل بعضهما بعضاً، وفي كل منهما ميزة لا تتوافر في الأخرى. (12) دراسة أدب اللغة العربية بمصر، ص 6. وترجمة الشايب في تقويم دار العلوم 1/244 - 245. وقد أنعم عليه الملك فاروق برتبة البكوية سنة 1951م بمناسبة العيد الفضي لجامعة فؤاد الأول سنة 1950م. وألقى في هذه المناسبة محاضرة عن الجاحظ سيأتي ذكرها، وألّف كتابه دراسة أدب اللغة العربية بمصر في النصف الأول من القرن العشرين، صدرت طبعته الأولى في يناير سنة 1952م. (13) المصدر السابق ص 7. (14) تاريخ آداب اللغة العربية، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1/8. ويلحظ تأثر جرجي زيدان بمنهج المستشرقين في دراساتهم في تاريخ الأدب، فقد رجع إلى مراجع فرنسية وإنجليزية وألمانية، ومنها تاريخ الأدب العربي لبروكلمان المطبوع في مجلدين عام 1902م، انظر ص 12-13من الجزء الأول. - قسم الأدب - كلية اللغة العربية بالرياض
مشاركة :