كي لا ننسى أن القضية الفلسطينية قضية أردنية كبرى آخر ما يحتاجه الأردن هو النقاش الذي يفضي إلى جدل حول العلاقة الداخلية بين الأردنيين من مختلف الأصول فهو جدل يخدم المشروع التوسعي لإسرائيل وليس بعيدا عن فكرة الوطن البديل. مسارات ملغومة لـ"عملية السلام" لا تغيب القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل عن أحاديث الناس ونقاشات الأوساط السياسية في الأردن. وفي كل مرة يتم استدعاء كافة العواقب والمصائب التي تلوح في آفاق التسوية الممكنة للقضية وأخطارها المباشرة على المملكة، من “الوطن البديل” إلى جدل الهوية ومفهوم المواطنة. لكن أداء الحكومة أو مؤسسة الحكم يكاد يتجاهل تماما المخاوف المشروعة التي تمسّ كيان الدولة ونسيجها الاجتماعي أمام حالة اللاتسوية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، أو إن الأداء الحكومي واقع بالفعل تحت ضغوط إقليمية ودولية، سياسيا واقتصاديا. العلاقة مع إسرائيل بالنسبة إلى الأردن ليست علاقة ثنائية صرفة ولا يمكن أن تكون كذلك في أيّ وقت، وليست قائمة فحسب على تقديم الدعم السياسي الممكن للفلسطينيين في حلم إقامة دولة لهم، لكنها ترتبط بشكل وثيق باستقرار الداخل الأردني والتماسك بين مكوناته. معروف أن أيّ تطور على مسار ما تسمى “عملية السلام” يمس الأردن مباشرة لاعتبارات الجغرافيا والسياسة والتاريخ، وأيضا الديمغرافيا حيث حوالي نصف السكان من أصول فلسطينية. الآن كل مسارات “عملية السلام” مغلقة أو على الأقل ملغومة ببقايا صفقة القرن وبالتوجهات الإسرائيلية إلى توسيع التطبيع في علاقاتها مع الدول العربية الأخرى وإبقاء القضية الفلسطينية كما هي على الهامش، بل والتصعيد عبر استمرار الاستيطان وضم أجزاء من الضفة. احتاج الملك عبدالله الثاني إلى التأكيد مرارا على معارضة الأردن التامة لمشروع الوطن البديل، وهو ما يتفق وتوجهات الرأي العام التي تتحرك عكس تيار التطبيع ولا تزال تقاوم مفاعيل معاهدة وادي عربة المبرمة مع إسرائيل قبل حوالي ثلاثة عقود. القلق المزمن الذي يساور الأردن من التحول إلى وطن بديل للفلسطينيين، ينبغي أن يترجَم اليوم إلى سياسات وقرارات تحصّن المملكة من هذا المشروع الكارثي، سياسيا واجتماعيا، ولا تقدم لإسرائيل أيّ فرصة لمواصلة تعطيل الحل القائم على إنشاء دولة للفلسطينيين وليس بديلا عنها، وهو مطلب لم يتراجع عنه الأردن ولم تتراجع إسرائيل عن رفضه قطعيا. وسط هذا كله، هل يبدو الوقت مناسبا لإبرام اتفاق “المياه مقابل الطاقة” مع إسرائيل، أو تقديم مفهوم “الهوية الوطنية الجامعة” للناس بطرح مثير للريبة، أو حتى ما يقال عن تقليص الاهتمام بالقضية الفلسطينية في المناهج التدريسية للجامعات؟ لا يمكن بأيّ حال فصل القضية الفلسطينية عن الأردن، الذي يتأثر وينبغي أن يؤثر بها في ما يخدم الفلسطينيين والأردنيين معا ويحافظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي للمملكة والمرور من هذا التحدي التاريخي بأقل الخسائر لم يلقَ اتفاق المياه مقابل الطاقة رفضا شعبيا فقط، بل طالته أيضا انتقادات السياسيين وشخصيات من مؤسسة الحكم. كما اضطرت الحكومة، في معرض دفاعها عن الاتفاق، إلى القول إنه مجرد مذكرة نوايا ولن يبدأ العمل به إلا بعد دراسته اقتصاديا العام المقبل. حتى لو كانت الصفقة مجدية من الناحية الاقتصادية أو إنها أفضل البدائل المتاحة، وهي ليست كذلك، فإن ربط قضية المياه المصيرية بالنسبة إلى المملكة باتفاق استراتيجي مع إسرائيل يعني أول ما يعنيه أن الأردن مرتاح للعلاقة مع الدولة العبرية ولا يشعر بقلق من مشاريعها المستقبلية. انتهت سنوات بنيامين نتانياهو الـ12 في قيادة إسرائيل وظل السلام خلالها “باردا” مع الأردن. لكنّ شيئا لم يتغير مع تشكيل الحكومة برئاسة نفتالي بينيت، وهو أحد أشرس المدافعين عن فكرة “الدولة اليهودية” من البحر إلى النهر، والتي تعني بديهيا إنهاء وجود الفلسطينيين على أراضيهم. هذه المفارقة الواضحة في التعامل مع إسرائيل ترتبط بمفارقة اخرى تدور حول الهوية والمواطنة. فهل يمكن لأبناء بلد ما أن يرفضوا “الهوية الوطنية الجامعة”؟ نعم. وهذا لأن المصطلح مثقل بالشبهات وبالمجاز الذي لا يعكس الواقع في دولة مثل الأردن. لا توجد هويات فرعية بالمعنى الحقيقي في الأردن، المتجانس دينيا وقوميا واجتماعيا ولكنه المختلف في “المنابت والأصول”. هذه المقولة التي تمكّن الأردنيون عموما من تجاوز تأثيراتها السلبية على تماسك المجتمع وساهموا جميعا على مدى عقود في بناء علاقة راسخة بين الأردنيين المتحدرين من شرق النهر ومن غربه. الطرح العام لمفهوم الهوية الوطنية الجامعة يعني على الأقل أن ثمة خلافا أو جدلا أو فُرقة، وهو ما لم يشك منه أحد أو يلتفت إليه بعين الجدية. لكن أول ما يخطر على بال أيّ أردني هو أن المصطلح يرتبط بعلاقة الشرق أردنيين مع الأردنيين من أصول فلسطينية. آخر ما يحتاجه البلد الآن هو النقاش الذي يفضي إلى جدل حول العلاقة الداخلية بين الأردنيين من مختلف الأصول. هذا الجدل الذي يخدم المشروع التوسعي المهيمن على العقل السياسي لإسرائيل، ليس بعيدا عن فكرة الوطن البديل. يُفترض أن الأردن، وهو يحتفل بمئة عام على تأسيس الدولة، استقر على مفهوم واضح للمواطنة المرتبطة بالدستور والقانون، وبمن له الحق في الجنسية وبمن هم لاجئون فلسطينيون ينتظرون “الحل النهائي” الذي لا مقدمات له في الأفق المنظور أو المتوقع. من المفهوم أن هامش التحرك السياسي الأردني في التعامل مع إسرائيل محكوم بمعاهدة وادي عربة التي اختزلت القضية الفلسطينية بالنسبة إلى المملكة بالقدس و”الرعاية الهاشمية” للأماكن المقدسة في المدينة التي تريدها إسرائيل “عاصمة أبدية”. ولم تتخل يوما عن هذا الهدف. لكن لا يمكن بأيّ حال فصل القضية الفلسطينية عن الأردن، الذي يتأثر وينبغي أن يؤثر بها في ما يخدم الفلسطينيين والأردنيين معا ويحافظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي للمملكة والمرور من هذا التحدي التاريخي بأقل الخسائر. شاكر رفايعة كاتب أردني
مشاركة :