يرفض الكثير من المسؤولين في مصر الظهور الإعلامي أو إجراء لقاءات صحافية للرد على الأسئلة التي تشغل بال الناس أو تمس صميم حياتهم، وباتت صورة الإعلام مهتزة، فهو لا يستطيع التناغم مع احتياجات الشارع وتوصيل صوته إلى صناع القرار، وغير قادر على الإجابة عن تساؤلات في ملفات تمس حياة الناس. كان طلب صحيفة كبرى أو برنامج تلفزيوني شهير لإجراء حوار مع مسؤول شهادة على حسن أدائه وتميزه، ويقبل بذلك دون تفكير، لكن هذا الواقع تبدّل وأصبح أغلب المسؤولين البارزين يفضلون تجنب الإعلام، وكأنهم على ثقة من أنه لن يستطيع توجيه انتقادات إليهم. وانتشرت الإشارة إلى المصادرة المجهولة في الأخبار المنشورة بالصحف والمواقع، لأن المعلومة غالبا ما تكون من مسؤولين ليس مصرحا لهم بالتعامل مع الإعلام، وقد يدلون بها من باب استرضاء الصحافي بناء على معرفة شخصية، أو يخشون التعنيف والمحاسبة من مسؤول أعلى لأنهم اخترقوا الحظر الضمني المفروض على علاقتهم بالإعلام، أو لعدم معرفتهم بحدود المسموح والممنوع وتجنبا للوقوع في خطأ. قال أحمد (س)، وهو عضو فريق الإعداد بأحد البرامج الحوارية الشهيرة في مصر، إن أغلب المسؤولين يرفضون الظهور الإعلامي لأنهم لا يمتلكون حنكة التعامل مع الإعلام بشكل عام، ويخشون الوقوع في هفوات كلامية ترتبط بصميم عملهم، فيورطون أنفسهم مع الحكومة أو دوائر معينة في دولاب الدولة، لإدراكهم أن الإعلام في النهاية يبحث عن مصلحته فقط. بعض المسؤولين يبررون مقاطعتهم للإعلام بأنهم يتعرضون لأسئلة استفزازية تشبه ما يتحدث عنه رواد صفحات التواصل وأضاف لـ”العرب”، مع التشديد على عدم ذكر اسمه، أن “الكثير من المسؤولين يتعمدون الاطلاع على الأسئلة أولا قبل الموافقة على الظهور الإعلامي من عدمه، وإذا حدث وسأل المذيع سؤالا غير المتفق عليه قد يتسبب ذلك في مقاطعة برامج القناة برمتها”، لافتا إلى أن “الاصطفاف الإعلامي خلف الحكومة لم ينجح في تقليل الفجوة مع المسؤولين، ويتعاملون بمنطق أن الإعلام في كل الأحوال لن يوجه لهم انتقادات”. ويبرر بعض المسؤولين مقاطعتهم بأنهم يتعرضون لأسئلة استفزازية ومثيرة تشبه التي يتطرق إليها رواد صفحات التواصل الاجتماعي، ما يعرضهم للحرج أو السقوط في فخ الإدلاء بتصريح يتسبب في سخرية، حيث صارت المنصات تتصيد هفوات المسؤولين للنيل منهم، ولو كانوا يروجون لإنجازات واقعية. وأكد أحد المسؤولين الكبار لـ”العرب” أنه قرر الابتعاد عن الإعلام لأن الناس لا يصدقون ما يتم الترويج له، وكثيرا ما يتعرض للتنمر ولا يستطيع الرد، ويكتفي بإصدار البيانات الرسمية عن الجهة المسؤول عنها، وهذه لا يستطيع الصحافي أو المذيع التحريف فيها، وبالتالي يقي نفسه من تصريحات ربما تأتي بردود فعل عكسية. ولا يثق المسؤول البارز في الكثير من الأقلام الصحافية أو الوجوه الإعلامية، وعادة ما يتم سؤاله بطريقة توحي بأنه متهم، ما يثير حفيظة أغلب المسؤولين في الحكومة، كأن الإعلام يخاطب منصات التواصل أكثر من بحثه عن معلومة مجردة من المصلحة، والمعضلة أن القنوات المعادية لمصر تتلقف مثل هذه التصريحات وتتفاخر بقدرتها على الهجوم على الحكومة وأعضائها. ويرى خبراء إعلام أن افتقاد البعض من العاملين في الإعلام خبرة التعامل مع المسؤولين يدفعهم إلى المزيد من القطيعة مع المهنة، وتتولد لديهم حساسية مفرطة تجاه كل ما هو إعلامي -بحكم الميراث السلبي الذي تراكم عبر سنوات طويلة مضت- لكونه مهنة البحث عن المصائب والكوارث والإثارة. ويعتقد هؤلاء الخبراء أن أزمة الكثير من المسؤولين تكمن في أنهم يفتقدون الحس السياسي عند التعامل مع الإعلامي ولا يعرفون دوره، ولا يدركون أن القطيعة يوازيها انتشار الشائعات بالقدر الذي تفشل الحكومة في مواجهته، وتثار قضايا يعتمد من يقفون خلفها على الصمت الدائم من المسؤولين لتتحول إلى حقائق بسبب عدم الرد عليها. وأكد صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة لـ”العرب” أن “الإعلام يتحمل فاتورة الصمت عن تحويل المهنة إلى إصدارات مخصصة للبيانات الرسمية، والاكتفاء بما يُملى على الصحف والبرامج من روايات صادرة عن جهات حكومية دون تحليل مضمونها والحصول على إجابات من المسؤولين عن أسئلة الشارع”. وأضاف أن “الإعلام هو من أوحى لدى المسؤول بفكرة أن البيان الرسمي يكفي بسبب غياب ثقافة النقد والتعمق في القضايا المثارة، فأصبح الطرفان يستسهلان المهمة؛ فالصحافي يكتفي بالرواية الرسمية، والمسؤول أيضا، وبدت أغلب وسائل الإعلام نسخة مكررة من بعضها البعض، تفتقد التنوع وتميز المحتوى، وفي النهاية لن يتحدث المسؤول مع منبر بلا أنياب حقيقية”. ووفق البعض من العاملين في مجال الإعلام أصبح تباعد المسافات بين الإعلام والمسؤولين في غير صالح أي طرف منهما، فالمنابر ستصبح بلا قيمة عند الجمهور، والحكومة سوف تخسر الوسيط الذي يقوم بتوصيل رسائلها إلى الشارع مهما كانت إيجابية، ومن ثم يفقد الإعلام تأثيره وأهميته ولا يكون له دور ليصبح بمرور الوقت وجود أكثر من وسيلة إعلامية ظاهرة لا قيمة لها، وتكفي مطالعة منبر واحد فقط. ويصعب فصل هذه القطيعة عن وجود قناعة راسخة لدى أغلب المسؤولين بصعوبة تعرضهم للمساءلة الإعلامية، فهم جزء من الحكومة التي تمتلك أغلب المؤسسات الإعلامية -إن لم يكن كلها- وبالتالي يتعامل كل منهم مع الإعلام باعتبار أن دوره الحالي لا يخرج عن كونه أداة للدعاية. ويستهوي هذا الدور الهامشي للإعلام الحكومة وأجهزتها دون إدراك انعكاسات ذلك السلبية على القوى الناعمة التي فقدت رونقها وأضحت تابعة أكثر منها ناقلة للحقيقة، ومع غياب الجدية والتأثير والمعلومات التي تهم الناس بات البديل الآن هو النبش في قضايا قديمة لتعويض غياب الرسالة الجادة التي تجذب الجمهور. وطالما تعاملت أغلب المؤسسات مع حق الناس في المعلومة باعتباره تجاوزا لمقتضيات الأمن القومي، يؤثر على سير العمل داخل الحكومة، فلن يتغير هذا الواقع، إلا باقتناع المؤسسات المالكة لوسائل الإعلام بأن القطيعة مع الصحف والبرامج سوف تؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار في الدولة، ومع الوقت تتحول القطيعة لتصبح بين الجمهور والحكومة نفسها.
مشاركة :