أبوية الدولة في التعامل مع حرية التعبير

  • 12/25/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أظنني أذكر المرة الأولى التي استشعرت فيها كطفل في السادسة من عمري سلطة الدولة التعسفية، والتي لم تكن منطقية بالنسبة لعقلي الساذج حينها. كان ذلك في نهاية التسعينيات، ومن أمام أحد مطاعم الشاورما في منطقة حولي، حين ركن والدي السيارة وترجل ليطلب الطعام بينما كنت أنا وأختي ننتظر.  وكعادة الأطفال إذا اجتمعوا، الجلوس دون شقاوة أمر شبه مستحيل، خرجتُ من فتحة السيارة العلوية مستقبلًا رياح شتاء الكويت اللطيف، ثم أخذت أصرخ بصوت عال مرددًا دعابة لفتت أنظار الجميع في الشارع. بدت ملامح التوتر على الناس، فهرع أبي راجعًا ثم وبخني على فعلتي، وحذرني من أنه لو مر شرطي وسمعني كان سيقتادني مع والدي للمخفر، وقد يحبس أبي بسبب فعلتي. صُعقت لرد فعل الجميع، وما أثار دهشتي واستغرابي أكثر كان سلطة الشرطة، كيف بوسعهم أن يزجوني ووالدي في الحبس بسبب دعابة بريئة، فأنا لم أرتكب أي معصية، ولم أقصد إهانة أحد. سألت والدي بعد وهلة عن سبب العقاب الذي تُوقعه الشرطة على من يدلي بمثل مزاحي، فجاوبني بأن القانون يعاقب التطرق لذكر الرمز الذي تناولته الدعابة بهذه الطريقة. لكن تعجبي لم يزل؛ فأنا لم أقصد الإساءة، ولم أعلم من قبل أن أجهزة الدولة مسخرة لمراقبة وعقاب أناس مثلنا، ولأسباب بسيطة وتكاد تكون تافهة كإلقاء النكات. كنت أظن أن دور الشرطة يقتصر على القبض على اللصوص، وحينها أدركت أن قوة أكبر مني ومن أبي ومن عالم أسرتي الصغير تضع قيودًا على أحاديثنا وتصرفاتنا. لم يكمل أبي النقاش معي، واكتفى بإبلاغي بممنوعات القانون، وأمرني ألا أكثر من السؤال، ثم أنهى الحوار. لا تفكر حتى لو رأيت وسمعت الصورة: Getty كانت تلك المرة الأولى التي أستشعر فيها السلطة السياسية ورقابتها على حرية التعبير، أما رقابة السلطة على حرية التفكير والاعتقاد فتبينت لي عندما كنت في الثامنة من عمري، يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، ذلك المساء شاهدت لأول مرة على التلفزيون سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأثناء انشغال الجميع بذلك المشهد المهيب لتدمير أحد رموز الحضارة الأمريكية الرأسمالية، دخل أحد الأقارب وكان يبدو أنه قرأ لتوه رسالة على هاتفه المحمول تفيد أن أسامة بن لادن هو المسؤول عن إسقاط البرجين، ووقتها استنكر والدي ما سمعه، وتساءل عن ذنب الأبرياء من المدنيين. لم أجرؤ على التدخل بين الراشدين في النقاش، لكنني حملت السؤال في سري إلى حين تسنح لي الفرصة. وفور خروجنا من منزل جدي سألت أبي في السيارة: «ماذا يعني الجهاد؟ ومن هو أسامة بن لادن؟ أهو أحد الصحابة؟». جواب أبي كان مختصرًا وحازمًا: «إنها أحاديث كبار، لا تتدخل». لكنني لم أستسلم، وهمست في أذن والدتي بالسؤال ذاته في نفس الليلة، لكنه وصل لمسمع أبي فزجرني قائلًا: «ألم آمرك بألا تتدخل في شؤون الكبار؟ ارحل فورًا لغرفتك، ولا تكرر هذا النقاش مرة أخرى». كانت هذه الذكرى العالقة في ذهني طيلة كل تلك السنين عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ذكرى طفل رأى مشهد حرب تدميرية في نيويورك، فجر فيها بعض المسلمين برجين مأهولين بمدنيين أمريكيين، دون أن أفهم السبب، وعندما حاولت معرفته صادر والدي حريتي في أن أفكر في الموضوع أو أن أتساءل عنه. فحتى وإن رأيت المنظر بعينيك لا تستمع لما يقال، لا تستفسر، لا تفكر، أنت صغير جدًا على أن تفهم. الدولة الأبوية الصورة: Getty في بداية الفصل الدراسي خريف عام 2012، وفي إحدى محاضرات مادة الدستور البريطاني حين كنت أدرس القانون بإحدى كليات جامعة لندن، كتب البروفيسور على اللوحة بالخط العريض Paternalistic State، ثم كتب على يسارها Constitutional Liberal Democracy. استغربت المصطلح الأول وظننته ذا معنى اجتماعي أكثر من قانوني، فكلمة Paternal تعني « أبوي » في اللغة العربية.  ثم أكمل البروفيسور شرح مبادئ الحرية الفردية وحقوق الإنسان وتطورها عبر التاريخ كأحد الأسس التي تكرست في دستور المملكة المتحدة منذ الماغنا كارتا (Magna Carta) حتى صدور ميثاق حقوق الإنسان الأوروبي (ECHR)، وتطرق إلى مقارنة نموذجية بين «الديمقراطية الدستورية الليبرالية» وما يعرف بالـ«Paternalistic State» أو الدولة الأبوية ، وهي نظام سلطوي يتميز بتقييد أو مصادرة حريات ومسؤوليات الأفراد التابعين له بحجة الصالح العام أو الحماية المشتركة. للتحقق من كون الكويت بلدًا ذا نظام أبوي، يكفينا مراجعة بعض التشريعات الكويتية، كقانون الجزاء وقانون أمن الدولة وقانون المرئي والمسموع وقانون المطبوعات والنشر. وإذ فجأةً أضاء في عقلي مصباح، ذلك هو النظام الاجتماعي-السياسي في الكويت. الآن أصبح مصطلح «الدولة الأبوية» منطقيًا أكثر، يبين ذلك المصطلح انعكاس الطبيعة الاجتماعية على التشريعات الوضعية والنظام السياسي للدولة بشكل عام، الأب دولة والدولة أب، السلطة مفهوم واحد لا يتغير، لكنه يتخذ أشكالًا مختلفة من الكيانات. قد تكون السلطة كيانًا سياسيًا كالدولة التي كانت ستحاسبني في السادسة من عمري (حسب رأي أبي) على دعابة بريئة، أو كيانًا اجتماعيًا كالأسرة الذكورية التي يتسيد فيها الأب شؤون كل الأفراد ويمنح أو يقيد حريات أبنائه، كما قيد أبي حقي في الاستفهام عن الظاهرة التي شهدتُ ميلادها، وهي الإرهاب الجهادي في القرن الواحد والعشرين.  لم أستغرق وقتًا كثيرًا لأتمكن من تشخيص الكويت كدولة قائمة على تلك المنهجية الأبوية في التعامل مع الأفراد، حتى لو غضضنا البصر عن التجربة المعيشية للفرد في الكويت، والذي يشعر بأن الدولة تتدخل في أدق تفاصيل حياته، بداية بما يشاهد على شاشات السينما التي تقص نصف مدة الأفلام لأسباب رقابية، أو ما يُعرض على المسارح، أو ما يَقرأ من كتب، أو ما يَكتب على منصات التواصل الاجتماعي والصحف، أو ما يحضر من حفلات موسيقية (التي يُمنع الرقص فيها)، أو منع اختلاط البنات بالأولاد في الجامعات والمدارس، أو حرمان العزاب من استئجار غرف في الفنادق أو عقارات في المناطق السكنية، أو حتى ما يجري داخل غرف النوم. للتحقق من كون الكويت بلدًا ذا نظام أبوي، يكفينا مراجعة بعض التشريعات الكويتية، كقانون الجزاء وقانون أمن الدولة وقانون المرئي والمسموع وقانون المطبوعات والنشر (في ذلك العام 2012 لم تصدر بعد التشريعات الأشد تقييدًا للحريات المدنية، كقانون الاتصالات وقانون الجرائم الإلكترونية)، وكنت على يقين تام بأنه في حال كانت الكويت من المصدقين على ميثاق حقوق الإنسان الأوروبي، فلن تصمد تلك التشريعات جلسة واحدة قبل أن تلغيها محكمة العدل الأوروبية، لإخلالها الفاحش بالمبادئ الأساسية لحرية التعبير وحق الخصوصية وحق المساواة والحرية من التعذيب والمعاملة المهينة. ولنفس المبررات التي أبداها أبي لمنعي من التساؤل حول ظاهرة الإرهاب الجهادي حين رأى نفسه وصيًا على عقلي، تبرر الدولة مصادرتها لحرية التعبير والحريات الشخصية بحفظ النظام العام والآداب العامة، وترى نفسها وصية على أخلاقيات الأفراد والمسؤول الأول عن المحافظة على منظومة الأخلاق والنظام العام، بغض النظر عن أي عوامل أخرى كالتطور أو التحرر الاجتماعي عبر مرور الزمن، والدليل على ذلك هو شبه انعدام أي مكاسب حقوقية ذات أثر جوهري على الأفراد باختلاف جنسهم أو هوياتهم منذ عام 1962، سواء كانت تشريعية أو قضائية، ما عدا نيل المرأة حقوقها السياسية ودخولها سلك القضاء. عنجهية المنظومة التشريعية للرقابة على التعبير الصورة: كونا ربما منذ كنت ذاك الطفل في السادسة، الذي صرخ من فتحة السيارة كلامًا مجرمًا، مؤمنًا بأن حرية التعبير أساس الحريات جمعاء، أرى أنها ركيزة أساسية للديمقراطية، ولمحاسبة فساد أي سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية أو مالية، للنقد الذاتي والتطور الاجتماعي، للعلم والمعرفة واستقصاء الحقائق. لكن بالنسبة للنظام القانوني الكويتي، ليس من المهم أن التعابير في نهاية المطاف تبقى تعابير، لا تعنف آثارها إنسانًا ولا تنهب مالًا ولا تخترق خصوصية أحد، فما زلت أجد نفسي في صراع مع الدولة يشبه الصراع العقلي للولد ذي الستة أعوام مع أبيه الذي وبخه على إلقاء نكتة بريئة، وعلى التساؤل عن مواضيع يناقشها الكبار.  الكارثة في القوانين الكويتية تكمن في الصياغة المطاطة غير القابلة للتفسير الواضح، فأين حدود القانون؟ ما سقف الرقابة في القانون الكويتي؟ فمثلًا، لا تهتم الدولة بأن العديد من ناهبي المال العام (الذين عاثوا بأرضنا وعبثوا بمستقبلنا فسادًا) أحرار طلقاء، بينما وصل معدل الحبس بسبب قضايا الرأي بين عامي 2016 و2018 إلى سجين جديد كل شهر. نظريًا، أصبحت الكويت بلدًا يصعب فيها التعبير عن رأيك دون مخاطر العواقب القانونية، وتتعامل الدولة مع قضايا الرأي (حتى تلك التي تتعلق بسجالات كلامية بين الأفراد) تعاملًا بوليسيًا، فمكتب المباحث الإلكترونية وجهاز أمن الدولة هما الجهتان الأساسيتان للتعامل مع قضايا الرأي ومراقبة المنصات الإلكترونية، وتتوليان صلاحيات ضبط المتهمين والتحقيق معهم. عقوبات جرائم الرأي في الكويت تتضمن الحبس ولا تقف عند الغرامات المالية، والقيود المفروضة على حرية التعبير يمكن تقسيمها لعدة أصناف رئيسية، وهي: المساس بالذات الإلهية وذات النبي محمد والصحابة وازدراء الدين الإسلامي المساس بالذات الأميرية المساس بأمن الدولة الإخلال بالآداب العامة العبور الجندري (Gender Transitioning) السب والقذف التشهير نشر أو عرض أو بث محتويات دون تصريح رقابي النقل الصحفي للقضايا التي تصنف على أنها ترتبط بأمن الدولة خطاب الكراهية أو التحريض الطائفي أو الفئوي أو القبلي رغم أنني من المؤمنين بأن حرية التعبير لا تُستوفى إلا إذا كانت شبه مطلقة ودون أي قيود مفروضة، فإن الكارثة في القوانين الكويتية تكمن في الصياغة المبهمة والمطاطة وغير القابلة للتفسير الواضح والسليم، فأين حدود القانون؟ ما سقف الرقابة في القانون الكويتي؟ هل فعلًا مفاهيم الإهانة أو السب والقذف أو التشهير قابلة للتعريف بشكل واضح؟ والأهم من ذلك: هل تستطيع الدولة أن تواكب كم المحبوسين شهريًا في قضايا الرأي في سبيل فرض معاييرها المثالية للكلام والتعبير؟ خلقت السلطة السياسية في الكويت بنية تشريعية ضخمة من الممنوعات، حتى أصبح اليوم أي نوع من التعبير مؤهلًا لأن يعرّض صاحبه للحبس. هل سأل أحدنا يومًا: ما معنى المساس بالذات الإلهية؟ هل عدم الإيمان مساس بالذات الإلهية وازدراء للدين الإسلامي؟ هل نقد الفقه مساس بالدين الإسلامي؟ هل السرد التاريخي للصحابة من وجهة نظر موضوعية يعد كذلك أيضًا؟ هل انتقاد مرسوم أميري يعد مساسًا بالذات الأميرية؟ هل الانتقاد السياسي لحل مجلس الأمة يعد مساسًا بالذات الأميرية؟ هل مخاطبة الأمير بشكل مباشر (كونه يمثل هرم السلطات الدستورية) مساس بالذات الأميرية؟ هل النقل الصحفي لشبهة فساد معينة لم تكتمل حقائقها يدخل في إطار التشهير؟ هل الرأي الشخصي في تصرف ما على أنه فاسد أو إجرامي يعد تشهيرًا؟ بهوسها بالسيطرة وذعرها السياسي الاجتماعي، خلقت السلطة السياسية في الكويت بنية تشريعية ضخمة من الممنوعات، حتى أصبح اليوم أي نوع من التعبير (سواء في الشارع أو المقهى أو بين الأصحاب عبر الإنترنت) مؤهلًا لأن يعرّض صاحبه للحبس والغرامات وخراب البيوت.  أغلب تلك التشريعات صيغت بطابع سياسي أو أخلاقي، ولم تخضع للدراسة أو المناقشة بشكل جيد، مما يعرض المدنيين للقمع التعسفي من قبل السلطة، التي تعطيها تلك التشريعات ثغرات قانونية تفرض من خلالها مفاهيم غير موضوعية لمصادرة حرية الأفراد في التعبير. ونرى ذلك جليًا في القضايا التي أدين خلالها مغردون بأحكام حبس بسبب انتقادات موضوعية تطرقت لشؤون سياسية أو دينية أو اجتماعية صنفتها المحاكم على أنها إهانة أو تشهير، وهو ما أحدث خوفًا مجتمعيًا من العقوبات القانونية القاسية، وأثر بشكل كبير على النشاط المدني والسياسي والاجتماعي في الكويت، وأصاب المنتدى الفكري والنقدي والأكاديمي بفقر وقصور في التحليل والتعبير. الأغلبية العظمى من قضايا الرأي التي تستهلك وقت القضاء وموارده تتعلق بقضايا السب والقذف أو التشهير. ورغم إيماني العميق بأن حرية التعبير تشمل حرية الشتم أو القذف أو حتى التشهير (طبقًا للمفهوم القانوني في الكويت وسائر البلدان العربية)، فإن الجزء الغالب من هذه القضايا التي حكمت فيها المحاكم الكويتية بتجريم مدنيين بسبب آرائهم لا تمثل سبًا أو قذفًا أو تشهيرًا جازمًا، وإنما يدخل بعضها في خانة السخرية أو الترهات الكلامية العادية. كمثال، حُكم على مواطنة كويتية بدفع غرامة ألف دينار لأنها قالت لسيدة في مساجلة عبر تطبيق واتساب: «وصخة.. أهلج ماربوج.. انتي ما تستحين». هكذا يبلغ حجم سخافة وتفاهة قانون الجرائم الإلكترونية ، بحيث أصبحت الدولة تتدخل في تنظيم حوارات الأفراد الخصوصية، وتُسخر وقت القضاء وجهده وموارده في سبيل السيطرة على ألفاظ المواطنين وتعابيرهم اليومية. ليس هناك فارق واضح بين السب والقذف أو الإهانة وطبيعة الآراء الناقدة الأخرى، وهذه المفاهيم القانونية قديمة وغير حضارية للتعامل مع التعبير كنشاط إنساني وفكري. هوس الجاه والاحترام اللفظي طبيعة شرقية بالية لا تتناسب مع القرن الواحد والعشرين ولا مع الديمقراطية، ولا تفرز سوى عنجهيات قانونية تكبح وتظلم وتغلو في مصادرة ومعاقبة الأفراد، وتحرمهم من تداول آرائهم في مناخ آمن وحر. دور المنظومة الرقابية في تعزيز الفساد الحكومي خلقت المنظومة الرقابية في الكويت مناخًا يتكسب من خلاله الأفراد ماديًا من تجريم الرأي، ويحمي به الفاسدون أنفسهم من تسليط الضوء الإعلامي عليهم. الثقافة الإلكترونية السائدة اليوم هي أن يتصيد الأفراد لبعضهم بعضًا من أجل كسب التعويضات المالية الناتجة عن ربح مثل هذه القضايا، أو من أجل قمع آراء الآخرين التي لم ترُق للمشتكين. في هذا المناخ يكبح الأقوياء حق الضعفاء في التعبير عن آرائهم أو نقل معلومات عن شبهات الفساد التي تملأ مختلف قطاعات الدولة بذريعة التشهير. وللاستدلال، هناك مثلًا كم كبير من القضايا التي منع النائب العام النشر بشأنها أو قيدتنا قوانين التشهير من الحديث صراحة حولها، بينما أفلت منها المشتبه بهم من المتنفذين في ظل ظروف إجرائية غير شفافة. استغلت الدولة مرارًا سلطتها الممنوحة من قبل التشريعات الكويتية لمنع النشر في القضايا المنظورة أمام العدالة بحجج غير منطقية كي تغطي على فضائح النظام السياسي، بالإضافة إلى أمثلة أخرى تتمثل في تهديدات إعلامية من قبل رجال أعمال أو نواب ضد التعرض لأسمائهم علنًا في قضايا يشتبه بهم فيها. تلك هي الطريقة الأبوية التي تنظر بها الدولة للأفراد؛ كأطفال واجب تربيتهم وتقييم سلوكياتهم وطريقة تفكيرهم، تحرص الدولة على أن يتصرف المواطن ويتحدث طبقًا لأعراف تقليدية معينة، حتى أصبحنا كلنا أطفالًا نحفر الحفر لبعضنا كي نتصيد خطيئات الآخرين، لنتمكن من أن نشي بها للدولة، الأب الكبير. بذريعة درء الفتنة أو الحفاظ على الوحدة الوطنية أو الصالح العام، تحرص السلطة على أن تتحفظ على قضايا الفساد أو تردمها بطريقة أو بأخرى، والويل لكل من نقل أو ناقش أو شكك في فرد من الأفراد الذين حمتهم السلطة والتي تحوم حولهم الشبهات النتنة. هكذا عاملتنا الدولة كأطفال قاصري الفهم، لا بد أن نغض البصر ونترك الأمر لولاة الأمر، حتى نصبح جميعًا فاسدين متهالكين متخاذلين. مصالح السلطة في القمع والمفاهيم الثقافية الخاطئة الصورة: كونا لا يبدو أن السلطة وسائر التيارات السياسية (حتى تلك المحسوبة على المعارضة) تنوي تغيير منهجها ومفاهيمها تجاه حرية التعبير عن الرأي، ففي عام 2020 وافق مجلس الأمة على تعديل لقانون المطبوعات والنشر يغير الرقابة على الكتب من رقابة مسبقة خاضعة لوزارة الإعلام إلى رقابة لاحقة يقدرها القضاء، لكنه رفض مقترح إلغاء عقوبة السجن، وأضاف محاذير رقابية جديدة كانت تحتويها تشريعات أخرى، أي أن السلطة تعيد ترتيب نظامها الرقابي الشرس بشكل بسيط، وتقول للمواطنين: «انشروا ما شئتم، لن نمنع كتبكم في البداية، لكن في حال أخللتم بمحاذيرنا الرقابية المتعددة والشديدة وغير الواضحة، سنزج بكم في السجون». بالإضافة إلى ذلك، أعد مجلس الوزراء مؤخرًا (بعد فضيحة تسريبات يُدّعى أنها تتعلق بتجسس مدير جهاز أمن الدولة السابق ونجل رئيس الوزراء السابق جابر المبارك على بعض المواطنين) لجنة لدراسة ظاهرة الحسابات الوهمية التي (على حد تعبير الحكومة) «تصدر اتهامات دون دليل»، واستشف الكويتيون من تصريحات السلطة السياسية أنها لم تستفزها شبهات التجسس أكثر من التسريبات التي تنفذها حسابات غير معلن أصحابها. السلطة السياسية تحاول بكل ما أوتيت من قوة تكميم أفواه المسربين والمبلغين عن فضائح فسادها السياسي والمالي، لدرجة أنها درست بشكل جدي سن تشريع قمعي جديد يجرم الحسابات غير المعلن عن أصحابها، مما يدعوني للتساؤل عن طبيعة النظام السياسي الذي يهدد أمنه حساب وهمي على تويتر.  للأسف يوافق العديد من الكويتيين على هذا النهج القمعي، ولدينا مشكلة ثقافية خطيرة في التعامل مع الآراء والتعابير، إذ لا يعي العديد من الكويتيين إلى اليوم مدى إمكانية توسع وسوء استغلال المحاذير الرقابية، ولا تزال مفاهيم التبجيل والسمع والطاعة والإهانة والتشهير أعذارًا ومسوغات يرتضيها الكويتيون من أجل مصادرة حرية التعبير. حرية التعبير، طالما أنها لا تمس خصوصية أو سلامة أو الحقوق المادية للآخرين، هي حق مطلق للجميع دون شروط مهما كانت آراء الآخر متطرفة أو مزعجة بالنسبة لمفاهيمنا الشخصية. وفور أن نقنن حرية الرأي باستخدام مبررات دينية أو سياسية أو أمنية، سنخلق نظامًا أخلاقيًا أبويًا أمنيًا متسلطًا، يفرض معاييره على الأفراد ويقيد من حقهم في تقرير المصير ومحاربة الفساد، وكل سلطة تحكم المجتمع ستستغل مبرراتها الأمنية والسياسية والدينية لفرض قيودها الخاصة. المجتمعات حرة التعبير قادرة على استخلاص الحقائق بشكل أسرع، لأنها قادرة على التحليل والنقد والمناظرة بين الرأي والرأي الآخر ونقل الواقع بشكل حر غير مقيد، وكل ذلك يعطي أفضلية للمجتمعات الحرة بسبب سرعة تطورها الاجتماعي والسياسي وتصديها للفساد السلطوي. متى ستعي السلطة السياسية في الكويت أن البنية التشريعية القمعية التي بنتها خوفًا منا لن تحميها ولن تحمي البلد من الانهيار البطيء الذي ننزلق إليه؟ من الذي أودى بنا لحافة الهاوية اليوم: المغردون أم أفراد السلطة الذين نهبوا البلد نهب التتار؟ أما آن الأوان أن نتخذ العبرة من بلدان الربيع العربي التي رغم تكميمها لأفواه شعوبها بالسوط والساطور، لم تقدر أن تطفئ بركان الغضب عند انفجاره؟ التعابير في نهاية المطاف تبقى تعابير، لا تعنف آثارها إنسانًا ولا تنهب مالًا ولا تخترق خصوصية أحد، ومن لا تعجبه تلك التعابير قادر على الاختلاف والاعتراض، تلك هي قمة الحضارة والإنسانية.

مشاركة :