أعلنت صباح اليوم الرئاسة في جنوب إفريقيا، وفاة كبير أساقفة البلاد الحائز جائزة نوبل للسلام، ديزموند توتو، وأحد أقطاب الكفاح من أجل إنهاء حكم الأقلية البيضاء، عن 90 عاما. اشتهر توتو أيضا بتأييده للقضية الفلسطينية، فكان يرى أن العنف الإسرائيلي لا يمكن أن يولد إلا المزيد من الكراهية والعنف المتبادل. وفي 2002 قال إن سياسة إسرائيل لا تضاهيها إلا سياسة التمييز العنصري التي كانت سائدة في بلاده ضد السود. كما اشتهر توتو بتأييده للنضال السلمي، وبقدر معارضته سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا كان يرفض الردود الانتقامية للسود ضد هذه السياسة، مما أهله للفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1984. اكتسب ديزموند توتو، الأسقف الباسم من جنوب أفريقيا، أصدقاء ومعجبين في شتى أرجاء العالم، بفضل شخصيته الجامحة، وكان رجلا نحيلا قصير القامة، ويلقب بـ”القوس”، ولكنه كان يتمتع بروح دعابة وتشع منه روح السعادة رغم مفهوم الواجب الذي كان يطغى عليه. كما كان يتحلى بمفاهيم أخلاقية قوية، وحاول جاهدا تحقيق انتقال سلمي في جنوب أفريقيا. عيّنه المناضل الكبير ورئيس جنوب أفريقيا السابق، نيلسون مانديلا، رئيسا للجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلت للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري. العنصرية وتحويل المسار وُلد ديزموند توتو في عام 1931 في بلدة صغيرة يعمل معظم سكانها في مناجم الذهب في إقليم ترانسفال. اقتفى عمل مدرسا في بداية حياته، ولكنه ترك تلك المهنة عقب سريان قانون تعليم البانتو في عام 1953، وهو القانون الذي أدخل الفصل العنصري في المدارس. انضم ديزموند توتو إلى الكنيسة، وتأثر كثيرا بالعديد من رجال الدين البيض في جنوب أفريقيا وعلى وجه الخصوص ذلك المعارض العنيد لنظام الفصل العنصري الأسقف، تريفور هادلستون. بعد ترسيمه كاهنا في الكنيسة، حصل توتو على شهادات في علم اللاهوت وعلم النفس من جامعة في لندن، وعمل لفترة في كنيستين في جنوب شرقي إنجلترا. وعقب فترة قضاها يعمل في المجلس الكنسي العالمي في بريطانيا، أصبح توتو أول رئيس أسود للكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرج في عام 1975. كما عمل أسقفا في ليسوتو بين عامي 1976 و1978، ومساعدا لأسقف جوهانسبرج ورئيسا لابرشية في ضاحية سويتو قبل تعيينه أسقفا لجوهانسبرج. بدأ ديزموند توتو برفع صوته ضد الظلم في جنوب أفريقيا عندما كان رئيس الكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرج، ثم عندما أصبح الأمين العام للمجلس الكنائسي في جنوب أفريقيا في عام 1977. ولم يعرف المجتمع الأبيض في جنوب أفريقيا توتو بوصفه مناضلا من أجل الإصلاح إلا قبل اندلاع أعمال العنف في سويتو ببضعة شهور. نوبل للسلام حاز ديزموند توتو على جائزة نوبل للسلام في عام 1984 بفضل الجهود التي بذلها في التصدي لنظام الفصل العنصري، في خطوة اعتبرت بمثابة إهانة كبرى من جانب المجتمع الدولي لحكام جنوب أفريقيا البيض. وحضر حفل تنصيب توتو رئيسا لأساقفة جوهانسبرج شخصيات دينية دولية منها أسقف كنتربري السابق، روبرت رانسي، وأرملة زعيم الحقوق المدنية الأمريكي، مارتن لوثر كينج. وواصل توتو، بعدما أصبح زعيما للكنيسة الانجليكانية في جنوب أفريقيا، تصديه الفعال لنظام الفصل العنصري. وفي مارس 1988، قال: “نرفض أن نُعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة أحذيتها عليها”. وبعد شهور ستة، خاطر ديزموند توتو بدخول السجن بمطالبته بمقاطعة الانتخابات المحلية، كما تعرض لتسمم بغاز مسيل للدموع في أغسطس 1989، عندما تصدت الشرطة لمجموعة خارجة من كنيسة في بلدة للسود قرب كيب تاون، وفي الشهر التالي، ألقي عليه القبض بعد رفضه ترك مظاهرة محظورة. وحصلت دعواته لفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، بعد أن أصبح رئيسا للأساقفة، على دعم وتأييد من شتى أرجاء العالم، خصوصا أن هذه الدعوات صاحبتها إدانة قوية لكل أعمال العنف. ورحب ديزموند توتو بالإصلاحات الليبرالية التي أعلن عنها رئيس جنوب أفريقيا، دي كليرك، بعد توليه منصبه بقليل، وشملت هذه الإصلاحات رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطني الأفريقي وإطلاق سراح، نيلسون مانديلا. وبعد وقت قصير، أعلن ديزموند توتو حظرا على انضمام رجال الدين إلى الأحزاب السياسية، وهو قرار أدانته الكنائس الأخرى. لم يخش ديزموند توتو من البوح بآرائه أبدا، ففي أبريل 1989، أثناء زيارة لمدينة برمينجهام في إنجلترا، انتقد ما وصفه بـ”بريطانيا ذات الأمتين”، وقال إن السجون البريطانية تعج بالنزلاء السود. كما أغضب الإسرائيليين عندما شبّه – أثناء زيارة – الأفارقة السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين الذين يقطنون الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال توتو إنه لا يستطيع أن يستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرين كاليهود أن يفرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني. وكان من أشد المعجبين بنيلسون مانديلا، ولكنه لم يتفق معه دائما وخصوصا في ما يتعلق بجواز استخدام العنف لتحقيق هدف عادل. و طلب مانديلا، في نوفمبر 1995، وقد أصبح آنذاك رئيس جنوب أفريقيا، من توتو أن يرأس لجنة للحقيقة والمصالحة مهمتها البحث عن أدلة عن وقوع جرائم إبان حقبة الفصل العنصري، وإصدار توصيات بشأن ما إذا كان يجب العفو عن أولئك الذين يعترفون بضلوعهم بتلك الجرائم. وفي نهاية أعمال اللجنة، هاجم توتو قادة جنوب أفريقيا البيض السابقين، وقال إن معظمهم كذبوا على اللجنة. ورغم قبول الحكومة بالتقرير الذي أصدرته اللجنة، انتقدها كثيرون بزعم أنها لم تحقق الأهداف التي شُكّلت من أجلها. فقد اتُّهم توتو، على سبيل المثال، بالتساهل مع زوجة مانديلا الأولى ويني التي كانت تواجه تهما خطيرة بما فيها الضلوع في جرائم قتل. ولكنه كان دائم التأثر بآلام ضحايا العنف، وشوهد أكثر من مرة وهو يبكي أثناء جلسات اللجنة. السود والكنيسة لم يسلموا من انتقاداته كما وجّه توتو انتقادات لحكومة الأغلبية السوداء التي تولت الحكم عقب سقوط نظام الفصل العنصري، وشن هجمات لاذعة على حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي التي كان يقودها الرئيس ثابو امبيكي. وادعى أن حزب المؤتمر الوطني لم يقم بما يكفي من أجل محاربة الفقر وأن قدرا كبيرا من الثروة والسلطة السياسية تتركز في أيدي نخبة سياسية سوداء جديدة. وبعد سنتين، حث توتو جاكوب زوما، الذي وجهت إليه تهم فساد واقتراف اعتداءات جنسية، على التخلي عن سعيه للفوز بمنصب الرئاسة، كما كان شديد الانتقاد لحكومة روبرت موجابي في زيمبابوي. ولم تسلم كذلك كنيسته الانجليكانية من انتقاداته، وخصوصا عقب اللغط الذي أثير بشأن ترسيم كهنة مثليين، قال ديزموند توتو مرة، في معرض اتهامه للكنيسة بالسماح “لهوسها” بالمثلية الجنسية أن يتغلب على حربها ضد الفقر في العالم، إن “الرب يبكي”. وفاز توتو في أبريل 2013 بجائزة تمبلتون المرموقة، وهي جائزة هدفها تكريم الأحياء “الذين ساهموا بشكل كبير في تأكيد الأبعاد الروحية للحياة”، وكان من الفائزين بهذه الجائزة في الماضي كل من الأم تيريزا والدالاي لاما.
مشاركة :