من «الأغلبية الصامتة» إلى الأقلية غير المتشددة

  • 12/27/2021
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

وجدت نفسي مؤخراً في محادثة مع صحافي ليبرالي كان يزور فيينا. فقد فوجئت به يصيح في وجهي قائلاً: «هل يجب أن نتفاجأ من قرار النمسا بإغلاق الأماكن أمام غير الملقحين وأن الحكومة تضغط من أجل التطعيم الإلزامي؟ ألم يكن النمساويون والألمان هم أول من قاموا بحبس أقلياتهم في الثلاثينات؟»، كانت هذه الكلمات نوعا من المبالغة الصادمة التي باتت معتادة هذه الأيام من المشككين في اللقاح وحق مقاومة الإغلاق. شبح الفاشية ليس ببعيد في السياسة الأوروبية، واتهام أعدائك بأنهم ورثة هتلر أصبح شائعاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن شيئاً سريالياً حقاً قيد التنفيذ: تقليدياً، كانت أحزاب اليمين المتطرف، وبعضها له جذور في الماضي النازي، هي التي اتُهمت بالميول الفاشية، والآن باتوا هم المتهمين. لقد سمعت حتى بعض المشككين في اللقاحات ونشطاء مناهضي الإغلاق يطالبون بإجراء «تجربة نورمبرغ» لأي شخص يدعو إلى التطعيم الإلزامي. هل ستنجح هذه المحاولات لطعن الدولة المتغطرسة واتهام السياسيين الرئيسيين بالفاشية الطبية؟ ربما. تشير دراسة استقصائية أجراها «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» مؤخراً إلى أنه على الرغم من أن غالبية الأوروبيين الغربيين يدعمون السياسات التقييدية التي وضعتها حكوماتهم لمكافحة فيروس كورونا، فإن كثيراً منهم لديهم أيضاً مشاعر مختلطة. وقد وجد الاستطلاع أن ما يقرب من نصف النمساويين والألمان يعانون من جائحة «كوفيد» فقط لأنه سلبهم حريتهم. والشعبويون حريصون على دعم هذا المنحى. في الوقت الحالي، تبدو جهودهم فاشلة. وتشير الانتخابات الأخيرة في ألمانيا وجمهورية التشيك وبلغاريا إلى أن الناخبين أقل استعداداً لاتباع القادة الشعبويين مقارنة بحالهم قبل سنوات قليلة. وتوصلت دراسة أجرتها مؤسسة «يوغوف كمبريدج غلوباليزم» في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى أن المعتقدات الشعبوية «تراجعت على نطاق واسع» في 10 دول أوروبية على مدى السنوات الثلاث الماضية، لكن في الوقت نفسه، تزداد المعتقدات التآمرية. إنني أشعر بالقلق من أنه كلما طال استمرار قيود الوباء وزادت حدة الآثار الاقتصادية، زاد احتمال تردد صدى الحجج الشعبوية بين الجمهور. شهد اليمين الشعبوي في الأشهر الأخيرة تحولاً في الهوية. فقد كان من المعتاد أن تزعم هذه الأحزاب، بمواقفها من الهجرة والتغيير الثقافي، فهي تتحدث باسم «الشعب»، بأغلبية صامتة، لكن هذا الحال لم يعد قائماً. فقد تبنى «حزب الحرية» النمساوي، على سبيل المثال، موقفاً متشدداً مناهضاً للتلقيح. لكن شغل هذا المنصب يعني أنه لم يعد بإمكانه الادعاء بأنه بطل الأغلبية؛ فقد اختار غالبية النمساويين التطعيم. على الأقل في أوروبا الغربية، فإن الملقحين يشكلون الأغلبية. ليس من المستغرب، عندما يتولى الشعبويون السلطة - كما هو الحال في المجر وبولندا - أن يتبنوا سياسات التطعيم والإغلاق المشابهة لتلك التي قدمتها الأحزاب الرئيسية في أماكن أخرى. تدعي الأحزاب الشعبوية الآن أنها تتحدث نيابة عن أقلية مضطهدة من غير الملتزمين وتعيد وضع نفسها كأبطال للحرية والحقوق الفردية. قد يبدو هذا مألوفاً لكثير من الأميركيين: إنها المواقف نفسها التي يتبناها اليمين الأميركي، حتى عندما يكون في السلطة. ومن الواضح الآن أن أزمة فيروس كورونا أسهمت في تدويل اليمين الشعبوي. من المرجح أن تتعثر هذه المناورة لتعريف «الحرية» على أنها مقاومة بطولية للدولة التدخلية في مجتمعات أوروبا العجوزة، حيث يشعر الكثيرون بالقلق من الفيروس. لكن من خلال معارضة القيود الوبائية، سيكون لدى هؤلاء اللاعبين السياسيين فرصة أفضل لجذب الدعم من أفراد الأجيال الشابة الأكثر عرضة من والديهم لإلقاء اللوم على سياسات الحكومة في فقدانهم للحرية أكثر من انتشار فيروس قاتل. بالنسبة للشباب، يرتبط الوباء بفقدان الأرواح بدرجة أقل بكثير من ارتباطه بتدمير نمط حياتهم. يُظهر استطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنهم يشتبهون في أنهم تحولوا إلى ضحايا غير مرئيين لنفور حكوماتهم من المخاطرة. كان ذلك مؤشراً على أنه في المسيرات المناهضة للتطعيم المدعومة من «حزب الحرية» في فيينا، سار اللاسلطويون واليساريون الآخرون - تاريخياً أكثر بكثير من الشباب - جنباً إلى جنب مع أولئك الذين كانوا أعداءهم اللدودين بالأمس القريب. ماذا يعني هذا بالنسبة للسياسة السائدة؟ على المدى القصير، يبدو الوضع جيداً: فقد استفادت الأطراف المركزية من خلال تلبية غالبية توقعات الناس بشأن الاحتراز والحماية. ولكن من خلال تأييد ما يبدو بشكل متزايد أنه عمليات إغلاق لا تنتهي أبداً وتلقيحاً إلزامياً، فإن الحكومات الأوروبية تخاطر بإساءة قراءة المشاعر العامة المتغيرة. في هذا السياق، يمثل متغير «أوميكرون» خطراً سياسياً كبيراً، إذ إنه يتطلب استجابة حاسمة لمنع الضغوط الشديدة على أنظمة الرعاية الصحية، ولكن في الوقت نفسه، من خلال اعتماد السياسات الداعية لاتخاذ أقصى قدر من الاحتياط والتي كانت النهج الصحيح في بداية الوباء، ولكنها أكثر إثارة للتساؤل اليوم، فإن الحكومات تخاطر بالوقوع في فخ من صنع أيديها. فقد عادت الدولة الكبيرة بشكل كبير - لكن الثقة في الدولة الكبيرة لم تعد كذلك. تراهن الأحزاب السياسية الرئيسية في أوروبا الآن بشرعيتها على قدرتها على دحر الوباء، وهي بالفعل مقامرة خطيرة. إن مطالبة الناس بالتطعيم هي سياسة عامة حميدة، لكنها لا تضمن عدم إصابة أي شخص أو موت أحد. يمكن للحكومات تقليل المخاطر، لكنها لا تستطيع القضاء عليها. فالمفارقة هي أنه كلما ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تم تطعيمهم في المجتمع، قل احتمال دعم عمليات الإغلاق والسياسات التقييدية الأخرى. فبعد عامين من الحياة التي اتسمت «بنقص المساحة الذي يعوضه فائض الوقت»، بحسب وصف الشاعر جوزيف برودسكي لحياة السجين، سئم الناس الخوف. فهم يتوقعون أن تكون المدارس مفتوحة وأن تعود الحياة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية. يوضح انتشار «أوميكرون» أن الوباء لم ينتهِ بعد، لكن كثيراً من الناس يعيشون بالفعل كما لو أن عالم ما بعد الجائحة قد حل. في لحظة كهذه، ربما يكون تحديد توقعات معقولة أفضل سياسة مناهضة للشعبوية يمكن لأي حكومة أن تتبناها. لا يمكننا أن نأمل في هزيمة الوباء، لكن سيتعين علينا أن نتعلم كيف نتعايش معه. * رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية وزميل دائم في معهد العلوم الإنسانية بفيينا * خدمة «نيويورك تايمز»

مشاركة :