فى الوقت الذى تواصل فيه الدولة المصرية محاولة بناء عوامل الأمن والاستقرار وصولا إلى تحقيق التنمية المنشودة، تسعى بعض القوى المعادية إلى عرقلة تلك المحاولة عبر أنشطة تستهدف تقويض الثقة فى مؤسسات الدولة ومسارات عملها، وصولا إلى تأجيج مظاهر الاحتجاج والغضب. ولأسباب مفهومة، فإن الطريقة الأكثر فاعلية لتمكين تلك القوى المعادية من تحقيق أهدافها تتركز فى الأنشطة الإعلامية الهدّامة، التى يمكن من خلالها النفاذ إلى الرأى العام وتثويره، ودفع قطاعات من المواطنين إلى نقض الاستقرار الراهن وصناعة الفوضى. ولذلك، تواجه الدولة المصرية هجمات إعلامية مكثفة ومتتالية من أطراف مختلفة، وهى هجمات تختلف فى الشكل والوسيلة أحيانا، لكن أهدافها ومحتواها لا يتغيران، وقد بدا أن الرأى العام الوطنى ينطوى على قابلية للتأثر بتلك الهجمات، وهو الأمر الذى فرض تحديا على النخبة السياسية ودفعها إلى التفكير فى سبل المواجهة. وضمن محاولات التفكير فى مواجهة تلك الاستهدافات الحثيثة، ينبغى أن نرصد ونحلل المشهد الإعلامى الذى نعيش فيه راهنا، باعتبار أن هذا الرصد والتحليل سيمكننا من إدراك عوامل التأثير الهدّامة بما ييسر محاولة مواجهتها لاحقا. لا يجب أن ننسى أنه حين اندلعت الانتفاضة، فى يناير 2011، فوجئ كثيرون بالنفوذ الكبير الذى اكتسبته وسائط «التواصل الاجتماعى»، فى ظل إحكام نظام مبارك سيطرته على منظومة «الإعلام التقليدى»، وهى منظومة كبيرة تتألف من ترسانة ضخمة من وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتى كانت تحت هيمنة الحكومة، إضافة إلى وسائل إعلام خاصة تعمل ضمن حدود معينة، تفرضها التدخلات الأمنية، والضغوط التى تمارسها الدولة على رجال الأعمال المالكين لها. كان الإعلام فى مصر فى ذلك الوقت موزعا على ثلاثة أطر، أولها هو «الإعلام النظامى» الممثل فى الصحف والإذاعات والقنوات التليفزيونية والمواقع الإلكترونية المُرخصة، وهى منظومة كانت تحت يد نظام مبارك أو عينه. .. وثانيها هو الإطار الذى لم ينتبه البعض لخطورته الكبيرة آنذاك.. وكان هذا الإطار متمثلا فى وسائط «التواصل الاجتماعى». وبموازاة هذين الإطارين الإعلاميين اللذين أمكن السيطرة نسبيا على أحدهما، بينما انقسم الإطار الثانى بين مؤيدين ومعارضين للسلطة، برز إطار ثالث يمكن أن نسميه «إعلام المنابر». و«إعلام المنابر» هو المنظومة الإعلامية الثالثة التى أثرت فى الواقع المصرى آنذاك، بوصفه نشاطا اتصاليا، ينطوى على رسالة محددة، ومُرسل، ومُستقبل، وهدف، وسياق تلقى، ووسيلة.. أى المنبر. لقد نجحنا، عبر إجراءات تشريعية وإدارية وتوعوية، فى الحد من الأثر الضار لـ «إعلام المنابر» الذى يستهدف التعبئة والحشد السياسيين وصناعة الرأى العام المقوض للاستقرار، وحدث ذلك عبر جهود متصلة ساعدت فى أن تكون الخطبة عملا دينيا، يستهدف النسق الروحى والقيمى والشعائرى، ولا يستخدمها الخطباء والوعاظ فى تناول القضايا السياسية التى تخضع لخلافات حزبية، أو يشيعون خطابا منافيا لجوهر الدين السمح، أو مسوغا للعنف والتمييز والكراهية. وفى جانب آخر، تجتهد الأطر الرسمية فى ضبط الرسائل الإعلامية الواردة عبر إطار «الإعلام النظامى»، ومع ذلك فإن الاستهدافات العدائية تستمر، وتنجح فى تحقيق بعض أهدافها أحيانا، عبر التأثير فى الرأى العام باستخدام الأخبار المضللة والشائعات. يقودنا ذلك إلى فهم آليات التأثير الفعالة راهنا، وهى كما يبدو واضحا باتت مُركزة فى وسائط «التواصل الاجتماعى»، وهى وسائط نعرف جيدا أن إخضاعها للضبط كما حدث فى الإطارين الآخرين شبه مستحيل. ومن ضمن ما يجب أن نفعله لكى نقلل أثر الاستهدافات الضارة عبر تلك الوسائط الجديدة، أن نستمر فى تحصين «إعلام المنابر» من الاختراق السياسى، وأن نطور مشهد «الإعلام النظامى» لكى يصبح مصدر اعتماد رئيسيا للجمهور، وسيتحقق ذلك بالطبع عبر منحه المزيد من الفاعلية والمهنية والتنوع والتعدد، ومنحه القدرة على أن يعكس الأولويات الحقيقية للجمهور.
مشاركة :