تختار نعمة الشوا قطعا صغيرة من الحجارة الملونة وتصُفها جنبا إلى جنب بعناية وصبر وهي تصنع لوحة في مركز الفسيفساء بمدينة أريحا في الضفة الغربية. وفي المركز الذي أسسه أسامة حمدان في أريحا “مدينة القمر” منذ ما يقرب من 20 عاما، تعكف مجموعة من الحرفيين على إعادة الحياة لهذا الفن الذي يشكل معلما رئيسيا في التراث الثقافي الفلسطيني. جزء من التراث الحرفيون في المركز يسعون حاليا لإنشاء نصب تذكاري على شكل شجرة تمثل الحضارة في أريحا بشكل عام يقع المركز على حافة واد يبعد مئات الأمتار عن قصر هشام الأثري الذي يضم أكبر لوحة فسيفساء مكتشفة في العالم حتى الآن. يقول حمدان “سميناه مركز الفسيفساء لإعادة ولادة فن الفسيفساء من جديد في فلسطين”. والفسيفساء نوع من فنون الزخرفة تصطف فيه قطع صغيرة الحجم نادرا ما تكون منتظمة الأبعاد في ترتيب معين لإنتاج الشكل النهائي، وذلك باستخدام مواد لاصقة لجمع القطع وتثبيتها في أماكنها. ويمكن أن تكون القطع مأخوذة من الأحجار والزجاج والمعادن والقشور والقرميد وغيرها من المواد. وحرفة الفسيفساء من أقدم فنون التصوير يقول عنها الحرفيون السوريون إنها تنقسم إلى نوعين، فسيفساء حجرية وأخرى زجاجية؛ إذ تعتمد الحجرية على الحجر الموجود في الطبيعة حيث يتم أولا رسم مناظر الشخصيات والرسوم الهندسية على قطعة قماش بيضاء ثم يجري البحث عن الأحجار ذات الألوان التي تخدم التصميم، وبعد قص هذه الأحجار بمقاسات وسماكات محددة، توضع على اللوحة لتأخذ مكانها وتلصق بواسطة مادة لاصقة وتحاط بإطار حديدي ثم تترك لتجف لتبدأ بعدها عملية الشحذ لسطح اللوحة لإزالة ما علق بها. أما اللوحة الفسيفسائية الزجاجية فيتم إنجازها عبر رسم الشكل المراد تصميمه بواسطة أقلام فحمية على قطعة من الورق أو الكرتون المقوى، ثم توضع فوقه قطعة من النايلون الشفاف لحفظ الرسم وتستخدم بعدها القطع الزجاجية الملونة ليتم تثبيتها بالمادة اللاصقة وفق هندسة الشكل وتوضع على قطعة رخامية أو خشبية بنفس مقاس اللوحة لزيادة تماسكها. وقال حمدان في مقابلة مع رويترز “هذا الإرث الفسيفسائي عظيم.. عندنا كميات هائلة (لوحات فسيفساء) تعود إلى عدة فترات تاريخية سواء الفترة اليونانية والصليبية وحتى يومنا هذا”. ويوضح حمدان الذي كان يتابع عمل مجموعة من الحرفيين في ورشة للفسيفساء لإنجاز مجموعة جديدة من اللوحات “حرفة الفسيفساء هي جزء أساسي بالتراث الثقافي الفلسطيني منذ أكثر من ألفي سنة”. ويهدف المركز إلى عمل نسخ من أرضيات فسيفساء فلسطينية أصلية وعرضها في المكان، وتنظيم معارض في شتى المدن الفلسطينية لنشر الوعي بأهمية الحفاظ على الموروث الثقافي والفسيفساء بشكل خاص، وإنتاج لوحات فسيفساء جديدة. ويقول حمدان إن الفسيفساء “عبارة عن الرسم بالحجارة لأن الرسم يتم بمزج الألوان المائية والزيتية ولكن في الفسيفساء هذه الحجارة طبيعية موجودة في الطبيعة في الأراضي الفلسطينية”. ويضيف “كثير من الناس يعتقدون أن الحجارة عبارة عن قطع ملونة، ولكن هي حجارة طبيعية، وهذه هي قوة الفن الفسيفسائي لأنك ترسم بحجارة وألوانه محدودة”. ويمكن لزائر مركز الفسيفساء مشاهدة نسخ مصغرة للوحات مشهورة كتلك الموجودة في قصر هشام الأثري وتسمى شجرة الحياة ويظهر فيها أسد وثلاثة غزلان وشجرة. يقول إياد نجوم أحد العاملين في المركز “بدأنا في العام 2002 باثنين فقط واليوم نتكلم عن 25 موظفال يشتغلون بشكل مباشر مع المركز وأكثر من 30 بشكل غير مباشر من خلال دعمهم بالتدريب وتأهيلهم للعمل من بيوتهم”. ويجد الخطاط بشار جرارعة متعته في عمل لوحات من الفسيفساء سواء كانت لكلمات خطها أو لأشكال أخرى. ويقول جرارعة فيما كان يقوم بتقطيع أجزاء من السيراميك لقطع صغيرة “أنا في الحقيقة خطاط وأحب الخط العربي بكل أشكاله. فن الفسيفساء تراث قديم أحببته، كنت أراه في الكنائس والمواقع الأثرية وأسمع عنه”. ويفتخر جرارعة بما يقوم به من عمل في مركز الفسيفساء وقال “نحن نجدد الحضارات ونشتغل أعمالا للبيوت والمساجد والكنائس، ونستخدم حجارة طبيعية وصناعية والزجاج والسيراميك”. وشارك المركز في عمليات ترميم للفسيفساء خارج فلسطين وكذلك في مقدونيا وإيطاليا وسوريا ولبنان. وترى نعمة الشوا أن تعلم هذه الحرفة وخصوصا للسيدات ربات البيوت يمكن أن يساهم في توفير دخل لهن ولاسيما أن هناك إقبالا على لوحات الفسيفساء. وتقول نعمة التي قادتها الصدفة وحدها لتعلم فن الفسيفساء منذ عام 2005 “هذه حرفة يدوية من موروثنا الثقافي يجب أن نحافظ عليها، فعِوَض أن تنجز لوحة مرسومة بريشة تنجزها نفسها مرسومة بالحجارة”. ويسعى الحرفيون في المركز حاليا لإنشاء نصب تذكاري على شكل شجرة تمثل الحضارة في أريحا بشكل عام. ويقول جرارعة “نستخدم السيراميك في إنجاز لوحة الفسيفساء ستكون بارتفاع خمسة أمتار وعرض ثلاثة أمتار. العمل متعة والمتعة الأكبر تكون بعد إنجاز اللوحة”. ويقول حمدان الذي أسس مركز الفسيفساء كجمعية خيرية غير هادفة للربح تسعى لحماية وترويج الموروث الثقافي الفلسطيني “يوما بعد يوم يزيد الاهتمام ومعرفة الناس لهذا الفن الجميل”. ويضيف “من المهم أيضا أن تكون لدينا كوادر محلية مهنية متدربة قادرة بصورة دائمة على صيانة لوحات الفسيفساء، وهذا ما نجحنا في توفيره”.
مشاركة :