عبق المكان و عمق الزمان….قراءة متجددة

  • 12/30/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يتداول أهالي جدة طرفة ينسبونها إلى الكوميديان المصري المشهور عادل إمام، حيث زار مدينة جدة، وعلى عادة الجداويين في الاحتفاء بزوارهم ومدينتهم مروا به على مقبرة تسمى مقبرة أمنا حواء، ولعلهم تحدثوا عن القبر وطوله الذي يقال إنه حوالي مائتي قدم، ثم استمروا في التطواف على معالم جدة، حتى إذا وصلوا ميدان الدراجة التى تحتلها دراجة عملاقة، هي إحدى المعالم الجمالية في مدينة جدة، فتساءل عادل إمام المندهش لضخامة الدراجة إن كانت هذه الدراجة تخص سيدنا آدم؟! في المخيال الشعبى أن أم الخلق زوجة آدم اسمها حواء، وقد هبطت من الجنة في موقع مدينة جدة، أو أنها ماتت وقُبرت في جدة، وينطق البعض اسم المدينة بفتح الجيم إشارة إلى جدة الخلق. و لهذه الحكاية جذور عريقة في تاريخ الثقافة الشعبية فى مدينة جدة وما حولها، ولكونها حكاية أسطورية ليس لها أصل صحيح، فقد تصدى لنفي هذه الحكايا مؤلفنا محمد أنور نويلاتي، فاستقصى كتب التاريخ، كتب التفسير، وكتب اليهودية المحرفة عن التوراة، وتابع موضوع المقبرة والمقام الذي كان عليها، وما تعرض له من بناء أو هدم عبر التاريخ، كما درس ما جاء في الحضارات التي قامت في الوثنيات القديمة من معتقدات عن الآلهة الإناث، وتسربت تلك الأفكار إلى العرب الوثنيين الذين عبدوا اللات والعزى ومناة، كل ذلك ليستقصي إن كانت حكاية ارتباط أمنا حواء بجدة قد بدأت في العصر الجاهلي أم بعده، كما درس التراث الصوفي ليصل إلى أن التراث الصوفي قد احتفى بجدة وجعلها داراً للرباط ومقاما للتطهر قبل القدوم على مكة، وذهب إلى الأرشيف العثماني ليدرس تاريخ المقام في العصر العثماني، ثم انتقل إلى مكتبة الكونغرس ليعرف ما وصل إليه العلم بدراسة الأحافير والجينات عن نشأة الخليقة مما يدعم ما نُقل عن الاسرائيليات، وخاصة في موضوع الخطيئة الت جمعت في التوراة المحرفة حواء والحية و إبليس، ولم يجد على ذلك دليلا، وفي النهاية فإنه أخذ قارئه في سياحة علمية ثقافية ثرية تنتصر لما جاء في القرآن عن بدء الخليقة، وتأخذ بيد أبناء جدة إلى طريق الدين الصحيح والعلم بعيداً عن الخرافة والأساطير. إلى ذلك فالكتاب حافل بالوثائق عن تاريخ المقام والمقبرة. أيام طفولته شاهد المؤلف كيف يأتي حجاج البر إلى جدة ويقصدون المقبرة لقراءة الفاتحة، حيث يلقى بعضهم بالنقود ويتصدقون على الحراس الذين يعطونهم شيئاً من تراب المقبرة للبركة وللتيمم، أما في القرن العاشر الهجري، فقد رُوي أنه إذا تأخرت البواخر التي تحمل من أتموا الحج من أبناء الهنود، كانوا يأخذون رجلا من البحرية ويزفونه بالطبول حتى يصل إلى القبر، فإذا وصلوا سقط الرجل مغشيا عليه فيُسأل عن خبر أي مركب متأخر، فيذكر لهم حاله الذي هو فيه، وهل هو سالم أم لا، فإذا ثبت صدقه يأتيه الزوار بالنذور من جميع الجهات. في ملاحق كتاب الرحلة السرية للعقيد الروسي يكتب ميرزا عليم «و في مدينة جدة المقدسة قمنا بالحج إلى ضريح صاحبة العظمة أمنا حواء» . وهكذا تتطور الحكاية في المخيال الشعبي لتكتسب أبعادا جديدة. يذكر الأديب عمر عبد ربه إنه رأى فوجاً من حجاج البحر اتجهوا بلباس الإحرام إلى قبر حواء فتبعهم، وكان يقود فوج الحجاج قاض في محكمة جدة اسمه الشيخ عبدالوهاب حاملا في يده عصا فاخرة، و يلبس جبة بنية اللون تفوح منها رائحة العود الهندي، وأخذ يدعو وهم يؤمنون، كان دعاؤه مما لا خلاف عليه في السنة، ولفت نظره أن القاضي قال: السلام عليك يا أماه أينما كنت في أرض الله. بعدها أخذ كل حاج يعطي للقاضي مالاً، وعندما مد عبد ربه يده ببعض المال رفض القاضي وقال له أنت ولد جدة. دلالة الحادثة أن القاضي ليس لديه يقين ولا دليل بأن حواء قد دُفنت في هذا الموقع. قام حاكم مكة الشريف عون الرفيق باشا بهدم كافة القباب المقامة على القبور في الحجاز، ذكر الرحالة المصري محمد لبيب البتانوني إنه استثنى من ذلك ثلاث قباب، قبة قبر حواء، وقبة كانت على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بمكة، وقبة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. بعد دخول الملك عبد العزيز إلى جدة تم هدم آخر المقامات وهو مقام حواء وذلك بعد أن استفتى علماء الأزهر. و مما يدل على تجذر المعتقدات عن بركة القبر، ما كان يحدث في ستينيات القرن الماضي الميلادية، فقد تفتق عقل حراس المقبرة عن حيلة ماكرة، فقد ابتدعوا مصطلحا اقتصاديا أسموه ريال أمنا حواء، حيث يقوم الحراس بصرف الريال الورقي بقروش معدنية أقل من قيمته. وقد قامت بلدية جدة عام 1975 بطمس أي أثر لمقام حواء بالأسمنت بعد استمرار الممارسات الخاطئة للحجاج حول المقام. ما جاء في القرآن عن زوجة آدم أم البشر هو أن الله (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها). لم يذكر أنها خلقت من ضلع آدم، وأما الحديثان المرويان أن المرأة خلقت من ضلع فلم يكن فيهما إشارة إلى آدم وحواء، وكما ذكر محدثون فإن القصد كان التشبيه، كذلك لم يُعين في القرآن اسم أم البشر، وأما ما تحدثت به التوراة المحرفة عن تحميلها الخطيئة التي عوقب آدم وزوجه بعدها بالهبوط من الجنة فلم يرد أي تأكيد له لا في القرآن ولا في الحديث، وكل ما غير ذلك إنما كان من الاسرائيليات التي لم يتحفظ على روايتها الصحابة؛ لأنها لم تخالف شيئاً في القرآن ولكن سيقت على أنها رواية ليس هناك ما يصدقها أو يكذبها. ولذا لم يظهر عن حواء أي شيء إلى بعد بداية عصر التدوين في القرن الثاني للهجرة. ولم يظهر شيء عن علاقتها بجدة قبل القرن السابع للهجرة، وفي الإسرائيليات أقوال عن أن قبرها في بيت المقدس، أو أنها مدفونة مع سارة زوجة إبراهيم عليه السلام في مكان أقيمت عليه مستوطنة صهيونية اسمها كريات أربع، ويُنقل عن ابن عباس أنه قال إنها مدفونة مع زوجها في غار جبل أبي قبيس في مكة. وكل ذلك من الإسرائيليات كما رجح العلامة محمد رشيد رضا. أحد تفسيرات قناعة العامة بمكان حواء في جدة هو ما كانت تمثله المرأة عند الصوفية، وتمثله جدة المدينة التي يعتبرها التراث الصوفي مكانا للمجاهدة وتنقية النفس من الهوى تطهرا قبل الانتقال إلى مكة للحج والعمرة. وقد عرف الحجاز ظاهرة تولى إمرأة أعلى مراتب التصوف، حيث ظهرت فاطمة بنت حمد الفضيلية الزبيدية (توفيت عام 1247)، وكانت تتبع الطريقة النقشبندية وكان لها أوراد وأحزاب، وكان لها مجلس تردد عليه أغلب علماء مكة. ومن أبرز الطرق الصوفية التي انبثقت من الحجاز طريقتان، الأولى هي المرغنية الختمية التي أسسها محمد بن عثمان المرغني المولود في الطائف والتي انتشرت في السودان ومصر وكان لها دور كبير في السياسة والتدين هناك، والثانية الطريقة الادريسية السنوسية التي بدأت من مكة وانتشرت في شمال افريقيا وكان لها دور كبير في مكافحة الاستعمار الايطالي في ليبيا فيما بعد. وفي الحجاز أنتمي إليها خلق كثير من البدو حيث عملت لهم هجرا صغيرة وخاصة على طرق القوافل. وتأثير الصوفية في الدولة العثمانية كبير جدا، الأمر الذي يفسر الاهتمام الكبير بمقام حواء أيام حكمها. ذكر المؤرخ المكي محمد طاهر كردي في كتابه « التاريخ القويم لمكة وبيت الله الحرام « بأنه لا يستبعد أن قبر حواء من الهياكل المقدسة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام زالت دولة الوثنية، وهُدمت هياكلها التي من ضمنها هذا الهيكل، وبقي أثره في نفوس القوم، أقاموا له قبة لتكون مزارا للناس. وأول توثيق مكتوب يذكر اسم حواء مقرونا بالمقام كان عندما زار الرحالة ابن جبير جدة عام 579 للهجرة، وذكر القاسم بن يوسف السبتي الذي زار جدة في أواخر القرن السابع الهجري أن أهل العلم لا يوافقون على أن ذلك موضع قبرها، ويقولون إنه موضع نزولها من الجنة، ومن المعلوم أنه في عصر الدولة الفاطمية تم ابتداع ما سُمي (مشهد رؤيا)، وهو مشهد رمزي لأحد الأولياء أو الشخصيات الروحية البارزة من دون وجود جثمان حقيقي فيه. ويتم البناء هنا بناء على رؤيا منامية تطلب بناء ضريح ومقام ومسجد لأحد الصالحين في موقع محدد. ومن المعروف انه في عهد سيطرة الفاطميين على الحجاز اعتاد الناس على عدد من الاحتفالات والموالد بلغت اثنين وعشرين مولدا، مثل احتفال أول العام الهجري، ومولد الرسول وليلة النصف من شعبان ومولد السيدة فاطمة والسيدة خديجة ومولد آمنة أم النبي. وعندما حكم المماليك زادوا عليها احتفالات المحمل. وفي عهد السلطان قلاوون بني قبة فوق قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما في عهد الدولة العثمانية فقد نظرت إليه السلطات باعتباره ضريحا رسميا لأمنا حواء وتنافست سيدات الأسرة الحاكمة في رعايته. كما وتعددت المقامات في أنحاء مختلفة من الحجاز. وهكذا يثبت الكتاب أن حكاية مقبرة أمنا حواء في جدة لم تكن إلا وليدة المخيال الشعبي، وأن المتصوفة والمشارب والأهواء السياسية قد جعلوا من الرؤى والأساطير والإسرائيليات مشهداً ذهنيا ومعمارياً يشغل عقول الناس عن التفكير والتحليل، يذكر أمين الريحاني أنه عندما أراد الشريف عون الرفيق باشا هدم مقام حواء جاءه قناصل الدول الغربية يحذرونه، قالوا « إن حواء لا تخص المسلمين وحدهم وإنما هي لكل البشر»، ما أدل ذلك على الهوى السياسي الذي يخلق لنفسه ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى.

مشاركة :