النقد المجتمعي لأداء وزارة ما أو تصريح في غير موضعه من وزير ما ظاهرة صحية، وممارسة تكشف عن صحوة في هذا المجتمع، لكن في المقابل لا يليق بنا أن ننقد جملة مجتزأة من سياق كامل لهذا المسؤول أو ذاك، ثم تكون هي قضيتنا. شخصياً لا أعرف معالي وزير الإسكان، ولم يحدث أن قابلته، ولا مصلحة لي في وزارة الإسكان من قريب أو بعيد، لكنني – ومثلي كثيرون- مع النقد الهادف البناء، النقد الذي ينير للمسؤول الطريق ويريه الأخطاء -إن وجدت- في عمله، أو في أداء جهازه، أما النقد الجارح الذي يستهدف شخص المسؤول، ويسعى للنيل منه بالخروج بجملة تم نزعها عن سياقها، فلا أظن أنه سيفيدنا، أو سيفيد هذا المسؤول، بل لن يزيده إلا تحفظاً، وربما ارتباكاً. ولقد ضرب مجتمعنا السعودي أروع الأمثلة في الحكمة والتعقل ومناقشة قضاياه باتزان وبجدية، سواء من خلال صفحات الرأي في الصحف على مدار عقود مضت، أو اليوم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، لذا أجدني اليوم مستشعراً شيئاً من الخروج عن خطنا الرصين الذي يغلفه شعور الأسرة في البيت الواحد في انتقاد عبارة وردت في حوار طويل، وهي بالمناسبة، عبارة نرددها جميعاً، فلماذا أصبحت قضية حين جاءت من معالي الأخ وزير الإسكان؟ إن اصطياد عبارات المسؤولين واجتزاءها من سياقاتها على هذا النحو من شأنه أن يلحق بنا ضررين عظيمين؛ أولهما تعميم الهجوم السريع والانتقاد الواسع على أي مسؤول من دون تثبت وتأنٍّ، وهذا من شأنه أن يضع مجتمعنا في مهب الشائعات والزوابع الكلامية، وهذا يشغلنا عن مناقشة قضايانا بتركيز حتى نجتمع على خلاصات مهمة، ما من شك في أن صانع القرار سيسترشد به في ضوء سياساته لأني أعلم جيداً أن جميع الوزارات الآن تتابع بحرص ما يثار في شبكات التواصل الاجتماعي من آراء وانتقادات، فليتنا نحرص على إقامة حوار مجتمعي هادئ رزين يساعد على تهيئة بيئة لحوار بناء نافع، والضرر الأكبر من هذا أن كثيراً من المسؤولين بعد هذه الهجمة على وزير الإسكان سيحجمون عن مصارحة الناس بحقيقة كثير من المشكلات التي تحتاج إلى توعية بها سعياً إلى صيغة شراكة اجتماعية وطنية حقيقية، ونحن ولله الحمد شعب نمتلك من الوعي والفهم والنضج ما يؤهلنا لإقامة حوار حر مع أي مسؤول والتفاعل معه للوصول إلى حلول لمشكلاتنا. لا أتصور على الإطلاق أن وزير الإسكان يرى أن ما ذكره عن وجود أزمة فكر في تصورنا عن السكن هو المشكلة الوحيدة، فمن البديهي أن لدينا أزمة أراض، ومن المؤكد أن لدينا أزمة تمويل، ومن المؤكد أن لدينا أزمة تطوير عقاري، ومن المؤكد أن هناك حلولاً كثيرة مطروحة وخطوات تتخذها وزارة الإسكان في هذا الصدد، ومن يقول إن وزير الإسكان بتركيزه على هذه النقطة إنما يختزل جميع أسباب أزمة السكن في بلادنا فقط في فكر بعض مواطنينا عن نوعية هذا السكن وتصوره له، ما من شك في أنه يجور كثيراً على الرجل، فأسباب أزمة السكن واضحة لنا جميعاً، وليس من العقل أو المنطق أن نتقول على الرجل أنه لا يعرفها أو يتجاهلها، فقط كل ما في الأمر أنه أشار إلى بعد جديد في الأزمة من باب مساعدة الناس على تحديد سقف طموحهم في المستوى الذي يسرع من تملكهم سكنهم، ولا أجد وزير الإسكان أتى بجديد، فجميعنا طول الوقت ننتقد إهدارنا للمساحات في تصميم منازلنا على نحو يجعل كلفتها باهظة إلى حد يصعب معه تملكها، وأتصور أن أزمة الفكر لدينا في ثقافة السكن تتسع لأكثر من ذلك، وأن هناك ما لم يقله وزير الإسكان، فمازال فكر السكن الرأسي في بلادنا وحياة الأبراج السكنية يُطرَح على استحياء شديد، ومن خلال نماذج محدودة، أو ربما شاهدناه في نموذج واحد في العاصمة الرياض، لاصطدامه بثقافة المواطن وفكره السكني، على الرغم من أنه حل من شأنه تسريع امتلاك قطاع عريض من المواطنين سكنهم في زمن وجيز، لإمكان توفير عدد كبير من هذه الوحدات في زمن محدود وبأسعار أقل بكثير من أسعار الوحدات القائمة الآن، لكن قطاعاً غير قليل من المواطنين غير مستسيغ لهذا الأسلوب في الحياة، حتى ثقافة السكن في وحدات سكنية نفسها لم يتقبلها المجتمع إلا حديثاً، وجميعنا يعلم هذا. أيضاً –وهذا حديث مختصين- تراجع ثقافة الادخار على مدار العقود الماضية عند كثير من إخوتنا المواطنين وفاتورة المعيشة الباذخة تسببت في إهدار مواردهم المالية، في وقت كان آخرون فيه أكثر تدبيراً وتمكنوا من امتلاك منازلهم مع شيء من السيطرة على مواردهم وترشيد إنفاقها. ولا نقول أبداً إن هذه فقط أسباب وجود قطاع عريض من السعوديين لا يمتلكون سكنهم، لكن في الوقت نفسه لا يمكننا إنكار أنها من الأسباب، هذا مع معرفتي التامة بأن هناك كثيرين ليست لديهم اشتراطات بعينها، وكل ما يبحثون عنه امتلاك سقف يعيشون تحته بكرامة في هذه الحياة، وهؤلاء خارج حديثنا هذا. أتصور أننا في حاجة إلى قدر من التروي قبل الهجوم على مسؤول ما، وأتصور أيضاً أن الهجمة الشرسة التي نالت وزير الإسكان كان مبالغاً فيها، فممارسة النقد على أفكارنا ومراجعتها مع مستجدات العصر أمر صحي، ومجتمعنا بالفعل يقوم بهذا ويمارس النقد على نفسه طوال الوقت في المجالس وشبكات التواصل، والنتيجة أننا اليوم مجتمع مختلف متطور واعٍ بقضاياه وبمستجدات حياته ومستجدات العالم من حوله، فلماذا نعطي الحق لأنفسنا في أن نتطرق إلى ما شئنا من أفكار، وننكر ذلك الحق على هذا الوزير أو ذاك، خاصة أن الرجل لم يقل إنه سيتفرغ هو ووزارته لمعالجة هذه الأزمة في الفكر السكني لدينا، وسيغلق بقية الملفات. نحن أجمل من ذلك يا إخوتنا، نحن مجتمع جميل، ونمضي إلى الأجمل، فدعوا اللوحة تكتمل بالحوار والنقاش الهادئ، جمّل الله أيامكم.
مشاركة :