بعد عقود من الثورة الثقافية في الصين، ظهر نوع جديد من الجيش الشعبي، وهو فيلق الإنترنت، وهذا الفيلق مدفوع بالمشاعر القومية نفسها، والدعاية التي كان يمارسها الحرس الأحمر، ولهذا أطلق عليه البعض الحرس الأحمر السيبراني، ويتميز بالمزيج نفسه من الإلهام الشعبي والتوجيه من القمة، ومدفوع بمشاعر الصين الحساسة. وسواء كان يستهدف شركة أجنبية، أو فرقة موسيقى بوب كورية جنوبية، أو فريق كرة سلة أجنبياً، فإنهم يعيدون ذكريات غير مريحة عن الحرس الأحمر الذي شكّله الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، الذي كان يطارد ويعاقب المخالفين لنظام حكمه. عندما بدأت الثورة الثقافية في الصين عام 1966، كان الحرس الأحمر في طليعتها، وتحت تأثير الدعاية والقومية، ظل ماو تسي تونغ ينشر البراعم الحمراء للشيوعية، ومعظمهم من المراهقين، وبعضهم لا تتجاوز أعمارهم 14 عاماً، والذين ظلوا يستهدفون المجتمع الصيني ونخبه، من قادة الحزب إلى المعلمين، ومن هنا بدأ الحرس الأحمر مسيرته. وطلب منهم ماو التصدي للعناصر الأربعة القديمة (الأفكار القديمة، والثقافة القديمة، والعادات القديمة، والممارسات القديمة)، واختار الحرس الأحمر أهدافه بدقة، سواء كان الفيلسوف كونفوشيوس، أو القائد العسكري لين بياو، مدفوعاً في بعض الأحيان بالثأر والأهواء. ويمكن أن ينتهي الأمر بالمرء إلى الهلاك، لكونه زعيماً سياسياً يعارض سياسات ماو، أو مزارعاً يرتدي ملابس أفضل قليلاً من بقية سكان القرية. تلك الأوقات الفوضوية، التي أسفرت عن عمليات التطهير والوفيات والاضطراب الاجتماعي، تركت ندبة عميقة في الصين وشعبها، وهي واضحة حتى اليوم في خوف قيادة الحزب الشيوعي الصيني من الفوضى والحركات الجماهيرية غير المنضبطة. لكن اليوم نجد أن فيلق الإنترنت ليس شباباً مثل الحرس الأحمر القديم، بل معظمهم من الأشخاص الذين ولدوا بعد عام 1980، والذين نشأوا مع أجهزة الكمبيوتر والهواتف والإنترنت، ولكنهم تعرضوا أيضاً لقدر هائل من التعليم والدعاية الوطنية. ويطلق عليهم أحياناً اسم «ليتل بينك» أو «الأحمر الصغير»، على الرغم من أن المصطلح الأصلي لم يعد يجسّد تنوعهم. هذا النوع من الحرس الأحمر لا يتلقى تعويضات مالية عن أفعاله. وبغض النظر عن أي شيء آخر، فإن ما يوحّد الحرس الأحمر الإلكتروني اليوم هي الرغبة الوطنية في حماية الصين من الهجمات الأجنبية المتصورة أو الإهانات. وفي الآونة الأخيرة، تمت إضافة شركات مثل «وول مارت» و«إنتل» إلى قائمة الشركات الغربية المستهدفة من قبل مستخدمي الإنترنت الصينيين. ويُزعَم أن «وول مارت» توقفت عن بيع المنتجات المصنعة في بعض المناطق في الصين في مواقعها، بسبب الاشتباه في العمل القسري. وحاولت «إنتل» أيضاً أن تنأى بنفسها عن بيع المنتجات من هذه المناطق. ويحكم هذه التطورات قانون أميركي جديد، يحظر جلب المنتجات المستوردة من تلك المناطق، ما لم تثبت تلك الشركات أن المنتجات ليست مصنوعة من العمل القسري. كان الضغط الصيني عبر الإنترنت ناجحاً، واعتذرت شركة «إنتل» للصين عن إخبار مورديها بعدم شراء منتجات أو استئجار عمالة من مناطق معينة من الصين. وتكاتفت ضغوط الجهود الشعبية وسلطة الدولة، حيث استهدفت وكالة مكافحة الفساد الصينية «وول مارت». لم تكن هذه حالات منفردة، فبعد فترة وجيزة من فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أربعة مسؤولين صينيين، ومنظمة متورطة في الانتهاكات التي تحدث في بعض المناطق الصينية، دعت الصين مستخدمي الإنترنت الوطنيين إلى مقاطعة «اتش آند إم»، وهي شركة ملابس سويدية، أعلنت في عام 2020 أنها ستتوقف عن شراء قطن من تلك المناطق، بسبب المخاطر، وتدعي أن مصدرها من العمل الجبري. وفي الصين، تدعم حركات المقاطعة هذه ثلاثة كيانات، الحكومة والشركات والجماهير. وعلى الرغم من أن الحكومة المركزية تحافظ على مستوى منخفض نسبياً خلال العديد من المقاطعات، إلا أن الحرس الأحمر السيبراني تستخدمه الحكومة في الواقع كأداة غير رسمية لمعاقبة أو الضغط على دولة أو شركة أجنبية. وعلى المسرح العالمي، يتم فرض العقوبات الرسمية أو الرسوم الجمركية على الفور، ويمكن إبلاغ منظمة التجارة العالمية بسهولة عن التدابير الاقتصادية التعسفية، لكن المقاطعات الشعبية، التي يُنظر إليها على أنها حركات شعبية بدلاً من إجراءات حكومية، تصعب مواجهتها، رغم أنها في بعض الأحيان تعمل بالكفاءة نفسها. قد تقدم الحكومة دعماً خطابياً، وقد تقوم الكيانات الحكومية أو الحزبية بتضخيم الحملات الصغيرة بشكل حاسم، ففي حالة «إتش آند إم»، استطاع أحد منشورات محرك «ويبو» الصيني بمقاطعة الشركة السويدية أن يستقطب جمهوراً عريضاً. وبغض النظر عن التعزيزات الرسمية، في بيئة الإنترنت الصينية المُدارة بإحكام، لا يمكن لأي حملة أن تحقق النجاح دون أن تجد الضوء الأخضر من الحكومة. كما تشارك الشركات والشخصيات العامة في حركات المقاطعة في الصين. ومن منطلق حاجتهم إلى النأي بأنفسهم عن القضايا «السامة»، وإظهار صورة وطنية جديرة بالثقة، فإنهم يركبون الموجة القومية، فعلى سبيل المثال، تمت مقاطعة منتجات «إتش آند إم» أيضاً من قبل منصات التجارة الإلكترونية الصينية، مثل «علي بابا» و«جي دي دوت كوم» و«بيندودو»، التي أزالت هذه المنتجات بسبب الانتقادات العامة. وأزالت متاجر تطبيقات «اكسياموي» و«هاواوي» و«فيفو» تطبيق «اتش آند إم» من عروضها، بينما قامت «دي دي» و«بيادو» و«ميتوام» بمحو متاجر «اتش آند إم» من خرائطها. كما قاد مشاهير صينيون مقاطعة «اتش آند إم»، مثل المغني وانغ ييبو، والمغنية والممثلة فيكتوريا سونغ، والممثل هوانغ شوان، وقطع المشاهير أيضاً العلاقات مع «نايكي»، التي كانت مدرجة في قائمة أهداف المقاطعة مع «بربري» و«أديداس» و«نيو بالانس» و«زارا». في قضية «إنتل» الأخيرة، قطع المغني كاري وانغ العلاقات مع الشركة الأميركية. أخيراً، أكثر المشاركين في المقاطعة وضوحاً هم الجماهير، الذين ليس لديهم في الغالب مصالح مالية أو سياسية، لكنهم يشعرون بمسؤولية الدفاع عن الصين، أو حتى الغضب ضد الكيانات الأجنبية التي تبدو معادية للصين، وتحتاج إلى العقاب. في هذه الفئة، يجب أن نضيف أيضاً المؤثرين على محرك «ويبو» أو منصات أخرى، وقد يكون بعضهم مدفوعاً بمصالح شخصية، وليس وطنية. وهؤلاء يبشرون بأعمال وطنية، بينما ينتقدون الشركات الغربية أو الصينيين الذين يُنظر إليهم على أنهم مدافعون غربيون، وفي أثناء ذلك يكتسبون المزيد من الأتباع. وتصبح هذه الحركة قوة تساعد الحزب والحكومة داخلياً وخارجياً. إن شن مثل هذه الحملات على الأجانب هو أسلوب قديم، وأحياناً يكون أسلوباً غير متصل بالإنترنت أيضاً، ففي عام 2012، عندما تصاعد التوتر بين الصين واليابان، بعد قرار الحكومة اليابانية شراء مجموعة من الجزر المعروفة باسم سينكاكو (في اليابان) ودياويو (في الصين)، لم يقم المواطنون الصينيون فقط بالاحتجاج السلمي ضد اليابان، بل بدأوا في مقاطعة البضائع والشركات والسياحة اليابانية، وحتى مهاجمة الشركات اليابانية، مثل مركز تجاري مملوك لشركة ايون اليابانية، ومصنع باناسونيك، وتدمير المتاجر والسيارات اليابانية التي يملكها مواطنون صينيون. لم تعارض الحكومة الصينية الاحتجاجات، بل دعمتها، وسهلت نقل المتظاهرين عبر الحافلات السياحية. نتيجة لذلك، أغلقت العديد من الشركات اليابانية مؤقتاً مصانعها في الصين، بسبب مخاوف من العنف. في عام 2017، قاطع مستخدمو الإنترنت الصينيون الشركات الكورية الجنوبية، بسبب نشر حكومة كوريا الجنوبية لنظام دفاع صاروخي أميركي. وكانت شركة لوتي الكورية الجنوبية قد زودت الحكومة الكورية بالأرض لاستضافة النظام، الذي كان يهدف إلى الحماية من تهديدات الصواريخ الكورية الشمالية. لم يتوقف الغضب الصيني على الإنترنت عند «لوتي»، بل امتد إلى مقاطعة السياحة في كوريا الجنوبية، والدراما الكورية، ما أثر في علاقات الصين مع كوريا الجنوبية، وأصبح نزاعاً دبلوماسياً خطراً بين البلدين. • عندما بدأت الثورة الثقافية في الصين عام 1966، كان الحرس الأحمر في طليعتها، وتحت تأثير الدعاية والقومية، ظل ماو تسي تونغ ينشر البراعم الحمراء للشيوعية، ومن هنا بدأ الحرس الأحمر مسيرته. • أكثر المشاركين في المقاطعة وضوحاً هم الجماهير، الذين ليس لديهم في الغالب مصالح مالية أو سياسية، لكنهم يشعرون بمسؤولية الدفاع عن الصين. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share طباعة فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :