يعتبر البحث العلمي أساسًا لتقدم العلوم وتطور المعارف وهو العمود الفقري والركيزة الصلبة التي تستند عليها الصناعات والاختراعات التي تسهم بدورها وبشكل فعال في التطور الاقتصادي والتقني والاجتماعي. ومن المعروف أن الدول الصناعية المتقدمة تنفق الأموال الطائلة والاستثمارات الضخمة في سبيل البحوث العلمية التي تعمل على تحسين أداء المعدات وإطالة عمرها التشغيلي وتخفيض تكلفتها. والبحث العلمي يركز على النواحي التطبيقية أو تطوير وتبني نظريات علمية تقود البحث في النهاية إلى مرحلة التطبيق، لذا فإن البحث يجب أن يتجه نحو تبني وتطوير نظريات علمية تقود البحث العلمي في نهاية المطاف نحو ما يتناسب ويتمشى مع متطلبات التنمية ويواكب التطورات السريعة الذي تشهدها المجتمعات الحديثة في القطاعات الصناعية والطبية والزراعية والاقتصادية والتنموية والعسكرية ومجالات نقل التقنية والاستحواذ عليها وتوطينها. والبحث العلمي يمثل أهمية بالغة في حياة الأمم المتطورة ووسيلة فعالة في استمرار نموها ورقيها بما يتحقق لها من إمكانيات في إجراء البحوث وترسيخ قواعدها وبناء الكوادر الوطنية المؤهلة لها، فالعصر الحديث - عصر التقنية والازدهار العلمي - يُجسِّد حلقة الاتصال المباشر بين قنوات البحث العلمي وواقع المجتمع لربط التنمية الوطنية بأحدث وسائل التقنية وأساليب الإنتاج والتطور. والبحث العلمي هو المقدرة على الاستيعاب المتأني والتحليل المتزن والتفكير الرصين. ولقد أصبح التوجه في الجامعات والمعاهد العلمية نحو البحث العلمي أمرًا ضروريّا وحيويّا حيث إن هذه الكيانات والمواقع العلمية لم تبن فقط لتلقين العلوم والمعارف وحشوها في أذهان طلابها وإنما أنشئت لتكون أيضًا مراكز للتفكير والتنوير والإبداع والتطوير. وفي الجامعات تشكل برامج الدراسات العليا ومراكز البحوث بها سبلاً ميسرة وقنوات مفتوحة نحو الانطلاق نحو آفاق العلوم والمعرفة واكتشاف العوالم المجهولة. إن أسس نجاح أي بحث علمي تتوقف على توفر عناصر أساسية كالعقلية المتفتحة والذهن المصقول والرغبة الجادة في عمل البحوث وتوفر الأجواء والإمكانيات لها، كما أن البحث العلمي ليس مجرد معانٍ جوفاء أو تصورات عقيمة تلقى على عواهنها وإنما هو فكر جدية تعتمل في عقل الباحث ورؤىً حقيقية تتفاعل في ذهنه وأحاسيسه يسعى نحو تحقيقها وتطبيقها والاستفادة منها والوصول إلى نتائجها المحسوسة. ولكي تتحقق الفوائد المرجوة من تلك البحوث فلا شك أن الباحث سيجد في كثير من الأحيان بعض العوائق والمعاناة في سبيل الحصول على المعلومات التي يجب أن يستخلصها من المراجع المختلفة ومن المعلومات والأرقام الإحصائية المتعددة، وقد لا تكون تلك المراجع أو المعلومات متواجدة ومتاحة عند الحاجة للوصول إليها والحصول عليها، لذا قد لا يكون من السهل على الباحث أن يجد طريقه مفروشًا بالورود والرياحين في مسيرته البحثية فإن نقص الإمكانات وعدم توفر المعلومات وغياب الجهة أو الجهات التي تشجعه وتتبنى أبحاثه قد يعيق مسيرة البحث الأمر الذي قد يجد الباحث نفسه معه قد وقف في طريق مسدود لا يفضي إلى شيء وبالتالي تتعطل مسيرته البحثية وتتبدد جهوده العلمية التي أعطى لها جل وقته وأنفق بها كل طاقته. لا شك أن هناك الكثير من المزايا والفوائد التي أفرزتها البحوث العلمية فقد أصبح من الممكن التعرف على الكثير من الأمراض الفتاكة والتوصل إلى طرق لعلاجها، كذلك أمكن التوصل إلى أفضل أنواع التقنيات في الأجهزة والمعدات التي يستخدمها الإنسان في الاتصالات السلكية واللاسلكية ووسائل النقل، كذلك أمكن تحسين نوعية الكثير من المنتجات الزراعية والصناعية أو مجالات أخرى سواءً أكانت فنية أم إدارية أم تنظيمية. وعلى الصعيد المحلي أدَّى الكثير من البحوث إلى صناعات وطنية مبنية على الإبداع المحلي أصبح له عائد ملموس على الاقتصاد الوطني. إن دولة نامية مثل المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تصبح دولة صناعية ما لم تربط صناعتها المحلية بمراكز بحوث وتطوير تعمل على نقل وتطويع وتوطين التقنية الحديثة وتبدع في تطوير تقنية لها جذور وطنية كما أن البحوث التطبيقية لها صفة تراكمية لا يمكن أن يظهر أثرها إلا بعد فترة زمنية كافية من تطوير المعرفة واستثمار الملكات المبدعة. البحث العلمي هو محصلة تجارب متعددة تصطبغ بكثير من العناء والتضحية وتعتمد على مكونات عديدة أهمها تواجد العناصر البشرية المؤهلة والمؤسسات العلمية المتطورة بالإضافة إلى الإمكانات المادية الهائلة التي تتطلبها حركة البحث العلمي، والحديث عن رفع مستوى البحث العلمي يستلزم الحديث عن هذه العناصر جميعها، ولعل أهمها وجود الكوادر الوطنية المؤهلة والقادرة على مباشرة البحث وتطبيقه والإسهام فيه. وهذه الكوادر يجب العناية بها وتدريبها والأخذ بيدها وذلك أثناء مسيرتها العلمية في الجامعة حيث تتفتح المواهب وتبدأ شخصيات الطلاب في التبلور ثم النظر إلى أصحاب المواهب من أولئك الطلاب المبرزين والمتميزين لرعايتهم وتشجيعهم وتهيئتهم ليكونوا علماء وباحثين، وعندما تتكون هذه الكوادر فلا بد أن تهيأ لهم الأجواء العلمية والبحثية في بيئات متخصصة تحفل بالمعدات والأجهزة والإمكانات التي تساعد الباحث وتسهل مهماته وتوفر له الثقة في النفس من مساعدي بحوث وحاسبات آلية، كذلك يجب أن يتوفر الدعم المالي والذي سيكون له دور كبير في تنشيط البحوث وتوفير الحوافز المادية وإيجاد روح العمل الجاد والسعي الحثيث لإنجاز المهمات. إن الباحث جزء لا يتجزأ من مجتمعه الذي يعيش فيه فهو يحس بمشاكله ويتلمس متطلباته فيسعى جاهدًا لحل تلك المشاكل وتحقيق تلك المتطلبات. ولا شك أن الباحث قد اكتسب خلال مسيرته العلمية والعملية ما صقل مواهبه وطور أفكاره وبلور شخصيته إلى القدر الذي يستطيع معه أن يجابه تلك المشكلات، ولا يمكن أن يتأتَّى له التصدي لها ما لم تكن لديه الإمكانات المتاحة لذلك. لذا فإن التخصص عامل مهم في العملية البحثية فهو الوعاء الذي يختزن فيه الباحث كل حصيلته ومعطياته الفكرية والعلمية والعملية ليستطيع عندئذٍ التعامل مع جُلِّ - إن لم يكن كل - المشاكل التي يعاني منها مجتمعه وبيئته، ولا يمكن أن يكون نشاطه البحثي محصورًا فقط في إطار ضيق ومحدود من التخصص، لأن الباحث لا يمكن أن يعيش في قوقعة معزولة لا يحس فيها بما حوله من مشاكل ومستجدات أخرى تحدث في محيطه وبيئته ولا يستطيع مجابهتها والتصدي لها. الباحث في معاناته البحثية يهدف إلى إكمال البحث حسب خطته الموضوعة ومن ثم التوصل إلى نتائج محددة وملموسة، ولعل الهدف من البحث قد يتوقف على الغرض الأساسي الذي وضع من أجله، فقد يكون الغرض منه توفير أرضية معينة أو التوصل إلى معلومات محددة لأبحاث و دراسات قادمة، وكذلك اكتساب خبرات جديدة في مجالات بحثية لأغراض البحث العلمي ليس إلا، أو يكون البحث دراسة جادة بغية الوصول إلى حل مشاكل معينة والحصول على نتائج محددة، وفي هذه الحالة لا شك أن الهدف الأسمى للباحث هو أن يجد لبحثه المجال التطبيقي الذي يستفيد من خططه وطرائقه ونتائجه وتوصياته، ولعل أسوأ مصير يمكن أن يؤول إليه البحث هو أن يقبع في أدراج النسيان أو على أرفف الإهمال واللامبالاة، وبالتالي يُمنى الباحث باليأس والإحباط ومن ثم تضيع الجهود المبذولة في ذلك البحث وتهدر الإمكانات المتاحة له. يتناول البحث العلمي في المملكة كل الجوانب الضرورية المحققة لأهداف التنمية التي تسنها الدولة في خططها التنمويَّة وكل ما له مساس بحياة المواطن السعودي والتي تكفل له حياة هانئة ومستقرة وتهيئ له كافة الإمكانات التي تضمن له حياة ميسرة وبعيدة عن الإسراف والتكلف والتعقيد. ولقد لقيت البحوث العلمية في الجامعات السعودية كل تشجيع حيث أنشئت مراكز البحوث المتخصصة وانصبت برامج الدراسات العليا نحو البحوث العلمية ذات الأهداف المركزة والنتائج التطبيقية الملموسة. فعلى سبيل المثال هناك بحوث عن الطاقة الكهربائية للمحافظة عليها وترشيدها واستخدامها الاستخدام الأمثل والوصول إلى أفضل المواصفات التي يمكن التصميم بموجبها لتحسين أدائها ومواءمتها لظروف التشغيل في المملكة. كذلك أجريت بحوث على بعض الأمراض الشائعة في المملكة وطرق الوقاية منها وعلاجها، بل وأمكن التعرف على بعض الأمراض التي لم تكن معروفة من قبل، وأنشئت وحدات خاصة لتشخيصها وعلاجها، كذلك أمكن تطبيق الميكنة في الزراعة وتطوير الكثير من المحاصيل الزراعية وتحسين سلالاتها، كذلك عن تطوير مواد البناء باستخدام الخامات المصنعة محليا وذلك لما تشهده حركة البناء وإنشاء الطرق في المملكة من نشاط واسع وما تتطلبه من كميات هائلة من الخامات والمواد المتعددة، كذلك في صناعة المواد الغذائية وسلامتها وطرق حفظها وتعليبها، كذلك في الصناعات البترولية ومشتقاتها بدلا من تصدير الزيت الخام إلى خارج البلاد، ولقد أسهم البحث العلمي في تلك الجوانب وجوانب أخرى هامة وحيوية والتي ستتطلب الكثير من النفقات والأموال التي لو تم استيرادها من الخارج سيكون له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني. والبحث العلمي هو أحد أبرز العناصر التي تعوّل عليها رؤية المملكة 2030 الهادفة إلى نقل الاقتصاد الوطني من الاعتماد على النفط والتحوُّل إلى الاقتصاد المعرفي، وهو حجر الزاوية في بناء أي اقتصاد قائم على الابتكار، لذا لقد خطت المملكة خطوات كبيرة وجادة بتوجيه من قيادتها الحكيمة في سعي حثيث وخطوات عريضة نحو إحداث التطور التقني لمواطنيها وأبناء شعبها مع الحفاظ على القيم الدينية السمحة والتقاليد الاجتماعية الأصيلة، وفي هذا الإطار كان من الطبيعي أن يتجه البحث العلمي إلي تطوير المجتمع السعودي ونقل التقنية الحديثة بعد أن أرست قواعد وأسس ونظم التعليم الجامعي حيث أنشئت مراكز متخصصة في الجامعات لتبنّي وتمويل المشاريع البحثية وتوفير جميع الإمكانيات المادية والعملية لتيسير المسار البحثي وتهيئة جميع الظروف الملائمة لاستيفائه وإتمامه، كذلك أنشئت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتشجيع البحوث وتبنيها والاستفادة منها، ولذلك نشطت حركة البحوث العلمية في الجامعات السعودية وأوجدت روح التنافس بين القطاعات العلمية المختلفة. ومما لا شك فيه أن مراكز البحوث في بلادنا ومؤسساته العلمية تحتوي على قدر كبير من الوسائل والإمكانات التي قد لا تتوفر لدى كثير من دول العالم المتقدم والتي إذا أحسن استخدامها فستؤتي - بإذن الله - ثمارا يانعة ونتائج باهرة في مجالات البحث العلمي. كما أن مؤسساتنا العلمية تبذل الجهود المضاعفة لتهيئة المناخ العلمي المريح والحوافز المادية المشجعة حتى ينصرف الباحثون نحو بحوثهم بكل قواهم الفكرية والعلمية بعيدين عن مشاغل الحياة وصوارفها وهو ما تفعله كثير من الدول المتقدمة التي تهيء للباحثين كل الإمكانات المريحة التي تكفل للباحثين مستوىً معينا يوفر لهم الحياة الفكرية المبدعة والأجواء المستقرة الوادعة، هذا إلى جانب إتاحة سبل النشر والتطبيق لما أتموه من بحوث قيِّمة وما أحرزوه من نتائج باهرة انطلاقًا لما أثبتته الجامعات لدينا من تميُّز وجدارة واستحقاق من خلال تصنيف مؤشرات عدد من المؤسسات العلمية العالمية المرموقة التي يتم على أساسها تقييم وتصنيف الجامعات الحديثة مثل: مؤشرات QS وشنغهاي والتايمز بحيث تشمل: حجم الابتكار وعدد الحاصلين على درجات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس، حجم المؤسسة العلمية ودَخْلها، وسُمعتها الأكاديمية في البحوث، ودَخْلها من البحوث، مخرجات البحث وعدد الأوراق البحثية السنوية ومخرجات البحث وعدد الاستشهاد بأبحاثها، وعدد الاقتباسات مما تُنتجه الجامعة بشكل سنوي، وكذلك التنوع الدولي، وبيئة التعلّم، وسمعتها العلمية وجودة التعليم وجودة هيئة التدريس وهذا التقييمات لم تأت من فراغ بل من وكالات الجامعة المتخصصة في الدراسات العليا والبحث العلمي كهيئات تحكيمية تنظيمية واستشارية وإدارية لتوفير التوجيه الاستراتيجي والإشرافي لاستمرار الأنشطة البحثية بجامعاتنا والتأكد من إجراء جميع الممارسات البحثية والإدارية بشكل مسؤول عالٍ وأخلاقي راقٍ وبما يحقق مصلحة الاحتياجات المجتمعية. وفي هذا الإطار ذاته وحرصًا من جامعاتنا على توفير البيئة العلمية لطرح الجديد من البحوث العلمية في مجالات علمية مختلفة فقد سعت جامعاتنا إلى إنشاء وتطوير عدد من الجمعيات العلمية المتخصصة في الحقول العلمية، للبرامج الأكاديمية بالجامعة ينتسب إليها وينتظم في عِقدها جانب كبير من الخلفيات العلمية المتميزة والخبرات المهنية المتطورة. وقد دأبت تلك الجمعيات في تبني مفهوم يتمحور حول العمل على جمع أرباب التخصصات المتجانسة لتطوير المعارف وصقل الخبرات وبلورة المفاهيم والارتقاء بأساليب الممارسة وتقريب الأعضاء بعضهم من بعض في إطار التخصص الواحد والعمل المشترك الواحد، كما تهدف هذه الجمعيات إلى تنمية الفكر العلمي والعمل على تطويره وتنشيطه إلى جانب تحقيق التواصل العلمي لأعضاء الجمعية، وتقديم المشورة العلمية في مجالات التخصص، وتطوير الأداء العلمي والمهني للأعضاء، إضافةً إلى تقديم الاستشارات والدراسات العلمية وتطوير المعارف النظرية والتطبيقية وتطوير مفاهيم وأساليب جودة الأداء، وتعزيز ثقافة الجودة من الناحيتين النظرية والتطبيقية في الصناعات والمنتجات الوطنية. وفي هذا السياق يكون في ذلك دعم للتواصل بين الاختصاصات والاهتمامات وإيجاد مناخ صحي وبيئة مريحة وأرضية سليمة لتبادل المعلومات ونقل الخبرات والتعرف على أوجه وأساليب التقدم المعرفية والأفكار المستجدة والتطورات الحديثة في مجالات العلوم والتخصصات المختلفة، وهذه الجمعيات العلمية في جامعاتنا تمثل ظاهرة تكاد تكون موجودة في معظم دول العالم وبخاصة المتطورة منها، وهي سمة عصرية تمثل في حد ذاتها دليلاً للمستوى الحضاري ومؤشرًا للتقدم العلمي الذي وصلت إليه الأمم في العصر الحديث. فعلى سبيل المثال هناك جمعيات علمية في جامعاتنا لها نشاط علمي بارز يتمثل في عقد المؤتمرات وتنشيط البحث العلمي وإصدار النشرات وإجراء البحوث وتبادل الخبرات والمعلومات في تخصصات هندسية وطبية ومعلوماتية وإنسانية واجتماعية يتمثل في الإصدارات المنشورة والمؤتمرات واللقاءات العلمية التي ينظمونها ويشرفون عليها ويشاركون فيها ويدعون إليها، وهذه الأنشطة لها إسهام بارز في اللقاءات العلمية وتطوير العلاقات بين أصحاب التخصصات والاهتمامات المتماثلة. وفي الختام نستطيع أن نؤكد أن ما ورد ذكره من رؤى وأفكار لهو الغاية التي يطمح لها ويتوق إليها كل باحث وعالم سعودي وهو - بفضل الله - لا يقل في نضج عقليته وعمق خبرته وسعة إدراكه وتميز شخصيته عن أي باحث آخر في العالم حيث إن الكثير من الباحثين السعوديين قد تخرجوا في جامعاتنا المتميزة أو من جامعات عالمية أفرزت الكثير من العلماء والباحثين المرموقين، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. جامعة الملك سعود
مشاركة :