المثقف العربي الذي لم يكن يوما مثقفا

  • 1/12/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"المثقف العربي" الذي لم يكن يوما مثقفا متى كان للمثقف العربي دور كي يتراجع عنه؟ دعونا نقل إنه يعاني سكرات الموت السريري ولم يعد يتنفس إلا في الغرف الزجاجية داخل المنتديات المتخصصة وأمام جمهور قليل من المتثائبين. النخب الثقافية في العالم العربي مغتربة عن واقعها عبارة “ارحل” التي رفعتها الحشود الغاضبة في أكثر من شارع عربي منذ ما يزيد عن عشر سنوات لم تكن تعني الحاكم السياسي وحده، وإنما المثقف العربي في نسخه المتعددة وتشكلاته الهلامية المختلفة.. ولكنّ أكثرهم، على ما يبدو، لا يعلمون. ليس الأمر تأويلا مزاجيا لفعل أمر بُني في صيغة المطلق، وصدحت به حناجر صريحة أمام مؤسسات ترمز إلى السلطة في أكثر من عاصمة عربية، لكن كلمة “ارحل” تخاطب كل من يمتّ بصلة إلى ما وصلنا إليه، وفي مقدمتهم تلك المنظومة الفكرية التي تعني المثقف سواء كان مدافعا أم محرضا أم معارضا أم حتى معتكفا وزاهدا في ملكوت السياسة. هذا المثقف الذي كان ولا يزال حاضرا بغيابه، وغائبا بحضوره، يخدع نفسه ويقرأ عبارة “ارحل” وكأنها تخاطب الحاكم السياسي وحده، في حين أنه المعني بالأمر قبل غيره، كونه مسؤولا عن هذا الخواء الفسيح العظيم، إذ لم يكن يوما صالحا ولا فاعلا في بطانة الحكم ولا في خارجها. أيجهل أم يتجاهل المثل العامي القائل “قالوا له: يا فرعون من فرعنك؟ قال لهم: ما لقيت من يصدني”؟ ◙ كلمة "ارحل" لم تكن تحمل نزق الثوار وغضبهم فقط، بل رجاءهم وتضرعهم، لذلك فهم يسألون مثقفيهم الرحيل لخير هذه البلاد أما أسوأ الأدوار التي لعبها المثقف العربي، إن كانت له أدوار خارج النص المكتوب سلفا، فهو “شرف المعارضة وامتياز السلطة” وهو من لعب دورا تضليليا زاد من تشويش الرؤية وخداع البسطاء من الجماهير العريضة، فهو أدمن اللعب على الكلمات والمخاوف لاستمرار ثقافات الاستبداد والترهيب والتخويف. هذا التخاذل مردّه الخوف والأنانية وغياب مفهوم “المثقف العضوي” الملتحم بقضايا شعبه كما يفهمه الإيطالي غرامشي أو “المثقف الملحمي” الذي يقبل بالنهايات المشرفة كما أراده اليوناني سقراط حين تجرع السم بشجاعة في سبيل الحقيقة. مهلا، يبدو أننا أسلمنا الرأي بوجود “المثقف الحقيقي” في العالم العربي كبداهة راسخة فنكون بذلك قد أسأنا للمفهوم وتناولنا تسمية دون مسمى، ذلك أن المثقف في تعريفه الأوسع هو ذاك القادر على إحداث الإضافة وصنع التغيير وليس القابع وراء أكوام الكتب أو المتمترس داخل أسوار الجامعة أو المتفرج على آلام شعبه من خلف زجاج المقاهي. لننظر إلى أوروبا التي استعرنا منها كلمة “ديغاج” الفرنسية في انتفاضة تونس ثم ترجمناها إلى “ارحل” وعممناها في بقية المدن العربية، لماذا لا نستعير منها كلمة السر في إرادة التغيُّر العميق وهي أن نعكس الصيغة الببغاوية الممجوجة حول تبني شعارات ومن ثم البحث لها عما يبررها في الواقع؟ فالأولى بنا أن نبدل عبارة “إني أُؤمن أولًا ثم أفهم” بـ”إني أفهم أولًا ثم أُؤمن”. المشكلة أن النخب الثقافية في العالم العربي مغتربة عن واقعها، فهي إما تستهلك منتجا غربيا بآليات عربية أو تعيد تدوير واقع محلي في ماكينة غربية الصنع والتفكيك والتركيب، أما إذا أرادت ملامسة الواقع وحاولت البحث عن خصوصيتها، فقد تسقط في الانغلاق الموصول بالسلفية التي تؤدي حتما إلى التطرف والتكفير. متى كان للمثقف العربي دور كي يتراجع عنه؟ دعونا نقل إنه، ودون جلد للذات، يعاني سكرات الموت السريري ولم يعد يتنفس إلا في الغرف الزجاجية داخل المنتديات المتخصصة وأمام جمهور قليل من المتثائبين.. وفي أحسن حالاته يمرّغ ماء وجهه في الاصطفافات السياسية؛ إما موالاة مفضوحة أو معارضة مأجورة، فما العمل مع هذا الصنف من المثقفين الذي شبهه أحدهم بالضرس المنخول والمسحوب عصبه لكثرة عدم تحسسه للواقع؟ ◙ المثقف الذي كان ولا يزال حاضرا بغيابه، وغائبا بحضوره، يخدع نفسه ويقرأ عبارة "ارحل" وكأنها تخاطب الحاكم السياسي وحده، في حين أنه المعني بالأمر قبل غيره الحقيقة أن لا عزاء للجماهير المخذولة إلا في ما بدا يحمل مسحة أمل في الآداب والفنون رغم سيطرة العملة الرديئة، لكن هذا المجال لا يمكن له أن يسد الفراغ ويعوّض “بهجة المعرفة” التي تحدث عنها نيتشه في الفلسفة الألمانية التي زاوجت بين فكر هيغل وشعر شيلر، وكذلك المتعة التي تحدث عنها الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي في قوله “المثقف هو من اكتشف شيئاً أكثر تشويقاً من الجنس”. وفي نهاية المطاف، فإنه وكيفما كنا يولى علينا، في السياسة والثقافة وحتى إمامة الصلاة، لذلك تبادلت المجتمعات العربية في ما بينها عبارة “ارحل” وتراشقت بها في شتى المجالات كما لو أنها في ملعب كرة قدم يخلو من اللعب النظيف والتحكيم النظيف والجمهور النظيف. إنها ثقافة الإقصاء والتهميش التي لا نتقن غيرها، ولا نرضى عنها بديلا فكأنما البلاد بأسرها تقول لشعبها “ارحل”، وإلا فما تفسيرنا لتلك “التوابيت التي تشق عباب البحر” كل يوم، وتبحث لها عن مستقر في بلاد غرامشي وجان جاك روسو ومارتن لوثر وشكسبير، وكأنها تهرب من مثقفي البلاد الذين لم يكونوا يوما “مثقفين”؟ كلمة “ارحل” لم تكن تحمل نزق الثوار وغضبهم فقط، بل رجاءهم وتضرعهم، لذلك فهم يسألون مثقفيهم الرحيل لخير هذه البلاد، وبحق “ما لدينا من ذكرى لم تكن غالية كانت على كلينا”، فمن دون أشباه المثقفين يصبح العيش مستطابا. حكيم مرزوقي كاتب تونسي

مشاركة :