رغم اشتهار حلب بالقدود إلا أن حجم انتشارها عمّ جميع المحافظات في سوريا إذ لم تقتصر القدود على مدينة حلب، فهناك قدود حمصية ودمشقية وساحلية وغيرها، لكن أهل الاختصاص يعزون سبب ارتباطها بالشهباء لكون حلب مدرسة للغناء الأصيل عبر العصور. ووفقاً للباحث الموسيقي سلمان البدعيش فإن القدود الحلبية التي انتشرت في أرجاء سوريا والدول العربية وكان صاحب الفضل الأول المطرب الكبير صباح فخري تحظى بحضور واسع لدى مطربي السويداء المحليين، حيث استهوت أبناءها كمستمعين ومغنين وعازفين، وقد أجادوا أداءها أمثال شادي هلال وفراس الأنس ووسام حاطوم وغيرهم. ولأن القدود تمتاز بجملها اللحنية الطويلة وإيقاعها البطيء وفقاً للبدعيش لاقت هوى عند متذوقي الفن في السويداء حتى أنها أصبحت ملازمة لسهراتهم كما يلجأ الكثيرون من جيل الشباب لترديدها في مختلف المناسبات. ويوضح الموسيقي لؤي عماد رئيس القسم الشرقي في معهد فريد الأطرش للموسيقى أن القدود تعزف على جميع الآلات الموسيقية الشرقية البزق والناي والقانون والعود وتتطلب من ناحية العزف توفر الإحساس العالي لدى العازف والدقة والتركيز، كما يكثر الارتجال فيها لكن بشكل مدروس، مبيناً أنه من شأنها رفع الذائقة الفنية لدى العازف والمغني والمتلقي باعتبارها بناء موسيقيا راقياً وطرباً أصيلاً. ونظراً إلى ضرورتها يتم في معهد فريد الأطرش تدريب الطلاب على عزف القدود وكذلك غناؤها الذي يعد أصعب من عزفها كونها تحتاج كما يذكر عماد إلى صوت قادر على أدائها وتلوين وتمويج صوتي عربي. القدود الحلبية تحتاج مهارات خاصة في العزف والغناء وهي تراث عريق تدرّسه المؤسسات الأكاديمية الحكومية والخاصة في سوريا ويعود تاريخ القدود الحلبية إلى أكثر من 1700 سنة، وتحديدا إلى زمن القسّ السرياني “مار أفرام” (306 – 373م) الذي يُعتبر من أعظم من كتب القصيدة والترنيمة الدينية في الشرق، وبهدف ترغيب الناس بالحضور إلى الكنيسة، عمل على إدراج الألحان الدينية التي يألّفها الناس في طقوس يوم الأحد ومن ضمنها كانت انطلاقة القدود.. وتعتبر قدود القسّ “مار أفرام” في الكنيسة السريانية هي أقدم القدود في حلب، ومع مرور الزمن تحولت القدود إلى أغان شعبية ترسم الأحوال الاجتماعية والنفسية التي كان يعيشها الناس قديما، تفصح عن مكنونات حياتهم وأحاسيسهم. وقد أسهمت بساطة الأغاني وعذوبة الألحان في استمرارها من جيل إلى جيل وتخليدها حتى يومنا هذا. والقدود كما يصفها المختصون الموسيقيون منظومات غنائية أنشئت على قدود ومنظومات غنائية دينية أو مدنية وبنيت على قدود شعبية شائعة لتستفيد من شيوعها وسيرورتها وتحقق حضورها. وهناك نوعان من القدود الأول العادي الشعبي وهو منظومات غنائية قديمة متوارثة عن الأجداد والقسم الأكبر منها لا يعرف كاتبه أو ملحّنه، والثاني القد الموشح ويبنى على نظام الموشح من حيث الشكل الفني وما يميزه عنه الصياغة اللحنية التي تأخذ في الأول طابع القدود وفي الثاني طابع الموشح. ولا يتوقف تدريس القدود على المؤسسات الأكاديمية الحكومية في سوريا بل هو جزء من مناهج المعاهد الخاصة حيث يوضح في هذا الصدد الفنان أدهم عزقول مدير معهد فهد بلان للموسيقى والمدرب في مجال الغناء أنه يتم تدريب الطلاب عليها بالمعهد انطلاقاً من أهمية علم المقام وتنوع المقامات الملحنة عليها وذلك بما يرفع الذائقة الفنية لديهم. ويؤكد عزقول على توثيق هذه القدود والحفاظ عليها كونها من الفنون الموسيقية السورية الأصيلة التي اشتهرت بها مدينة حلب منذ القدم وتعد في أصلها أغاني شعبية سهلة اللحن تصلح لجميع المناسبات والاحتفالات. ويجد المطرب الشاب وسام حاطوم متعة في غناء القدود الحلبية التي تغنى لمتذوقي الفن من أصحاب الأذن الطربية وتعدّ من أجمل ما يغنى في ليالي الطرب حيث تضفي على السهرات رونقاً مميزاً، مبيناً أن أداءها يحتاج إلى مطرب نبرته الصوتية قوية ويملك إمكانيات فنية عالية وثقافة موسيقية لافتاً إلى إمكانية الجمع فيها بين أكثر من مقام. يذكر أن ملف القدود الحلبية أدرج في الشهر الفائت على القائمة التمثيلية للتراث الإنساني في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونيسكو بعد عمل دؤوب وممنهج قامت به الأمانة السورية للتنمية بالتعاون مع المجتمع المحلي بحلب ومؤسسات حكومية وأهل الاختصاص وفي مقدمتهم الراحل صباح فخري الذي قدم دعماً معنوياً وعلمياً وشارك بجزء من مسيرته في إثراء هذا الملف. والحفاظ على هذا الفن العريق يعتبر تحديا كبيرا اليوم نظرا إلى التطور الذي تشهده الموسيقى العربية ككل، والاتجاهات المستقبلية نحو الموسيقى الإلكترونية، وتغير ميولات الشباب سواء من الموسيقيين أو الجماهير، وهو ما يضع رهانا أمام استمرار هذا الفن وتطويره، وذلك عبر تدريسه وتشجيع الإنتاج فيه وتحفيز المبدعين الجدد على تطوير هذا الفن دون المساس بجوهره وضمان استمراره كفن متوارث بين الأجيال.
مشاركة :