صدرت للأديب الفنان المهندس مصطفى الخطيب المجموعة القصصية كوفيد 20، وتحتوي على العديد من القصص. وتدور القصص حول العديد من الموضوعات الهامة والعميقة أما الشخصيات فقد انطلقت من الذات المبدعة ونسجت بحرفية واتقان وهي تحمل هوية متطورة. وقد تمكن الكاتب من تمرير رسالته الإبداعية عبر البناء الدرامي المُحكم انطلاقًا من تلاقي الأدب مع علم النفس في التحليل الدقيق لبواعث السلوك البشري، وهذا يمنح المتلقي شعورًا بالتقارب بين الخيال وبين الحقيقة. وقد تم سرد الأحداث في عدة أزمنة تعبر عن الماضي والحاضر أو المستقبل وفقًا لحالة كل قصة على حدة. ونظرًا لأن هذه المجموعات تحتاج إلى دراسة كبيرة، سوف أتناول قصة واحدة بتحليل مختصر منها. ملخص قصة شجرة المانغو: تدور أحداث هذه القصة حول وجود شجرة وفيرة الثمار في أحد المنازل الكبيرة، الجميع يشتهي تناول ثمرة منها دون جدوى إلى ان قام الصبية بتسلق الأسوار والحصول على ثمرها عنوة لسد الحرمان الذي يضرب أعمارهم، ولكن أصحاب الشجرة يقررون رشها بمادة تجعلها عقيمة، حتى لا يشاركهم أحد في الحصول على هذه الثمار. ورغم أن حبكة الصراع تدور حول بعض الشخصيات التي تحتل كل واحدة منها على مساحة صغيرة من السرد، مثل: الرجل الذي يشتهى الثمرة، الطفل، الصبية، صاحب الشجرة، الطفلة، الجيران، إلا أن كل شخصية لها اهمية في هيكل النص الأدبي من حيث تحريك الأحداث إلى الأمام بطريقة ديناميكية، أو في تجسيد المواقف المتعارضة التي توضح التناقض بين الاتجاهات الفكرية المختلفة، وبصورة تتفق مع سمة القصة القصيرة من حيث قلة عدد الشخصيات. شجرة المانغو الباسقة الخضراء المكتظة بالثمار، والتي تقع بحوش المقدس أبومكرم على بعد عشرين مترًا ملتقى للطيور ومصدرًا للثروة التي تسعى كل القوى للفوز بها، وتبلغ قمة المأساة حسب المعنى المباشر في أن أحلام أهل الحي محصورة في الحصول على ثمرة مانغو لسد الجوع الكافر. ومع أن الطعام حق لكل فم، إلا العوز يضرب آمال أهل الحي بنيرانه المشتعلة وينذر بعواقب وخيمة، وهذا يعكس مدى الحرمان الرهيب الذي يعانيه الفقراء، في نطاق لا يؤمن الأثرياء فيه بفكرة تقاسم الموارد بالعدل على اعتبار أن الحياة حق للجميع. وقد صور القاص ذلك على لسان أحلام الفقير المجاور للشجرة، حسب هذه الجملة: "كانت بالنسبة لي كحلم بعيد المنال أقضي سـاعـات في الشرفة أتأملها"(ص38).وبالتالي، فنحن أمام شخص تقلصت كل أحلامه في مجرد الحصول على ثمرة مانغو. الامتداد الزمني للأزمة: لقد صورت القصة أن الفقر أزمة ممتدة وعميقة الجذور، وقد برز ذلك في هذه الجملة التالية: "أرصد الثمار متى ظهرت، أعين أماكنها على الفروع، وأكاد أحصي عددها، وحين تنضج وتأتي الريح برائحتها لتملأ أنفـي أزداد شوقا وحنينا إليها"(38). يفيد التحليل على الأمد القريب أننا أمام حالة ترقب من أحد المحروم حتى تبلغ الثمار نموها الكامل بعد حوالي 4: 5 أشهر من التزهير، وهذه يعكس معاناة كبيرة وبالتالي ضغطًا نفسيًا نتيجة الإحساس بالعجز عن الوفاء بالمتطلبات الغذائية. لقد امتد هذا الحرمان على الأمد الطويل مع الزمن حتى ورثه ذويهم المقهورين من الصبية، وهذا الشعور أدى إلى تمردهم على النسق الاجتماعي القائم داخل الحي الذين يقطنون فيه. لقد تطور التعاون بين المسحوقين إلى مجازفة دون الاكتراث بالحواجز التي شيدها الأثرياء حول الدار المحصنة بالأسلاك الشائكة أو بكسر الزجاج المغروس فوق قمة الأسوار العالية لمنع الدخول إلى الفناء والحصول على الثمار من الشجرة ذات الطرح الغزير. كسروا القيود بقصف الشجرة بالحجارة من الخارج، أملا في التمكن من دخول الحوش لجمع ما يسقط منها، ورغم الفشل في محاولات عديدة لم يتوقفوا أبدًا إلى أن نجح أحد الصبية بمساعدة زملاؤه في الاقتحام، وخرج بيد بها ثمرة، وأخرى بها جرح ينزف، لم يبال الجائع بثمن الحصول على الطعام، وهذا شجع الآخرين على استخدام القوة وتكرار نفس الفعل. الأثرياء يهدمون المعبد: مع استمرار معسكر الفقراء في الحصول على الثمار عنوة، تطور الهجوم على ملاك الثروة وقد صورته القصة في الجملة التالية: "استمر الحال هكذا إلى أن كانت الطامة الكبرى، طاشت إحدى الحجارة، فأصاب طفلة في رأسها وهي تلعب فوق سطح منزلها وسالت دماؤها غزيرة، أصبح الأمر خطرا لا يمكن السكوت عنه، لذا اجتمع الجيران في منزل أبومكرم ليجدوا حلا لتلك المشكلة"(ص41). لقد تخطى القذف محيط الشجرة ونفد الطوب إلى داخل المنزل حتى سقط فوق المائدة، وأسفرت هذه المواجهة عن إصابة طفلة من أبناء الأثرياء ونزفت دماءً. هذه الرمزية تشير إلى ان المجتمعات لن تقف مكتوفة الأيدي في ظل استمرار الفقر والجوع، فإذا كان هناك جيلًا قد كبح الحرمان بداخل ذاته، هناك أجيالًا قادمة لن تستطيع الصبر على ذلك، سوف تتمرد نتيجة اختلال التوزيع العادل للثروة، وهذا قد ينذر بفوضى غير خلاقة، تطال الآخر المحتكر للثروة. تجمع الأثرياء للبحث عن حل بعضهم قرر قطع الشجرة، إلا أن أحد الشخصيات الشريرة، اقترح رش الشجرة بمادة تمنعها من إنتاج الثمار بحيث تبقى على قيد الحياة، حتى يستمتعوا بالخضرة فقط، بدلًا من تقاسم الثروة بترك الثمار التي لا يحتاج إليها للجائعين. رمزية ثمرة المانغو: ثمرة المانغو في قصة مصطفى الخطيب توازي ثمرة البطاطا في رواية الحرام الصادرة عام 1959م، ولكن الفرق بينهما أن ثمرة البطاطا عند الكاتب الراحل يوسف إدريس اقترنت باغتصاب المرأة تحت وطأة العوز مما أدى إلى فقدانها الحياة، بعد أن خنقت ولدها دون قصد للهروب العار كحالة تسلط فردية. بينما ثمرة المانغو في هذه القصة تشير إلى نمو الاحتياج للغذاء كحالة جماعية، وأن المواجهة بين الجيل الجديد وبين رأس المال قادمة لا محالة، لأنه الذي لم يتورع عن تحويل الشجرة إلى نبات عقيم لحرمان الفقراء من حقوقهم في الحياة، لا أمان له، وهذه الرمزية تحذر من شهوة الاستحواذ الجامحة لدى الرأسمالية الفاسدة.
مشاركة :