إرثٌ وطني، وتاريخٌ حافل، ومسيرةٌ ملأى بالإنجازات التي سيخلدها تاريخ مصر الحديث، وتاريخ الفن التشكيلي في الوطن العربي، للفنان المصري العالمي، ووزير الثقافة الأسبق بجمهورية مصر، الفنان فاروق حسني. من هنا، وبعد أن افتتح الفنان حسني معرضهُ الثاني في مملكة البحرين، والذي احتضنه «مركز الفنون»، بعد معرضه الأول الذي استضافته المملكة عام 1992، لابد من تسليط الضوء على مسيرته الفنية التشكيلية الزاخرة، التي بذل خلالها جلّ جهده وإمكاناته، لإحياء الفن التشكيلي، وبصفة خاصة، الفن التجريدي الحر، الذي يمثل ثمرة خياله الإبداعي، وثقافته الغزيرة، وألوانه النابضة بالحياة، المتأثرة بالذات المفرطة من خلال اسقاطاته النفسية والروحية على المساحات والكتل اللونية في اللوحة التشكيلية، ولهذه الاسقاطات، مدلولات ومعانٍ رمزية تسبح خطوطها وإيماءاتها بوضوح في فضاء المساحات اللونية التي أُفرغت من تفاصيلها وجمودها وأشكالها المعتادة، ليصبها بلغةٍ تجريدية حرة، تُسهل على المتلقي إدراك رمزيتها بسهولةٍ ويسر. يُعد الفنان حسني، أحد رواد المدرسة الفنية التجريدية، ليس في جمهورية مصر وحسب، بل في العالم العربي، وهو إلى جانب ذلك، فنانٌ عالمي، تجولت أعماله الفنية في معارض فردية، حازت على قبول منقطع النظير في المتاحف، وصالات العرض بالولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وإيطاليا، وفرنسا، والكثير من دول العالم. فمنذُ أن غادر الفنان حسني أرض مصر إلى إيطاليا، ليتمم ما تعلم في جامعات مصر، على مدة الـ18 عامًا، ولينهل ويتعلم عن قرب، ويطلع على فنون الغرب وثوراته، ومدارسه الفنية في عالم الفن التشكيلي، حيثُ تمكن من تحقيق أهدافه ومساعيه، لتحرير أعماله الفنية التشكيلية من كل أنواع الاتجاهات والأساليب التقليدية، إلى نظام بناء تشكيلي متكامل عبر الفكرة، وتغير إطار اللوحة الفنية، إلى إطار الحياة اليومية. كما ألهم حسني، فنانون آخرون لتبني لغة التجريد في التشكيل اللوني الذي يؤمن به، إذ أن أعماله تثير في نفوس المتلقي حالاتٍ من الدهشة والفضول، لسبر أغوار الرمزية في الخطوط التي تفترش اللوحة، وتغوص في الجوهر الروحي لمشاعره الفنية الزاخرة بإبداعاته. فقد لعبت الجمالية الرمزية في لوحات الفنان حسني، عبر تشكيلية الكتل، ورمزية الخطوط والإيماءات، بدعمٍ روحاني، وموسيقى حسية لونية، وخلفية ثقافية غزيرة، مبنية على موضوعية المشهد الذي تثير رموزه حالةً جماليةً مدهشة، يشعر بها المتلقي باعتبارها تداعيات حسية، تأثرت بالمدارس الفنية الإنطباعية، والواقعية، والرمزية، إلى إنطباعات بالرؤى التأثيرية التي من شأنها خلق واقع رديف، موازٍ للحقيقة، ومبسطاً، اختزالاً، من حيث الفلسفة التي تنتجها النواحي العفوية لتبدو لوحاته فطرية في تشكيلاتها، وعفوية في حركتها وألوانها. في هذا اللقاء مع الفنان حسني، ننغمس معهُ في عمق العمل التجريدي الروحي، كما يسميه، مستطلعين رؤيته الخاصة التي تتآلف مع طبيعته الإنسانية في تواليف صور يحاول تأكيدها في أذهان المتلقي، من أجل خلق نوع من الوعي، الذي يعري وقائع بشرية، ويغلفها ليقول ما يود قوله بالريشة واللون، على لوحةٍ من القماش الخام أو الورق أو الخشب. ] تُسقط انفعالاتك بلغة التجريد والتعبير اللوني على اللوحة التي تثير في النفوس حالاتٍ من الدهشة والسؤال.. كيف يمكن أن توصل هذه الانفعالات، وما تود التعبير عنه للمتلق العادي؟ إن كثافة المعرفة، وعمق الاطلاع على شتى الفنون، لهُ الدور الأكبر في قراءة اللوحة الفنية التجريدية، فالمدرسة التجريدية لم تأت من فراغ، كما أن الفراعنة الأوائل، عبر تجريد الكتل في أعمالهم، وإسقاط الرموز عليها -كما نرى في المسلة المصرية، ومجسم أبو الهول - مارسو عملاً رمزيًا وتجريديًا. ] برأيك، هل فتحت المدرسة التجريدية الباب على مدارس فنية أخرى أم أغلقتهُ على ما سبقها من مدارس؟ لكل مذهبٍ فني جماليته وتأثيره على جمهوره، من حيث اللغة البصرية، والموضوع. وعن نفسي، أعتنق التجريد الذي أصب من خلاله مشاعري، وطاقاتي، وأحاسيسي، كرموز تعبيرية، أطلقها باللون على اللوحة الفنية، حيثُ أصبح فن التجريد أسلوب حياة، وقد تقبله الوعي الثقافي العالمي، وأضحى مذهبًا فنيًا في مختلف الدول، خاصة المتقدمة. أما المدارس الفنية الأخرى، كالأنطباعية، والسريالية، والرومنسية، والوحشية، وغيرها، فلكل مدرسة قيم جمالية مؤثرة، تستنطق بمفرداتها الفنية الجوانب التصويرية، ولكن التجريد هو لغة تتعامل مع الروح مباشرة، ويأتي نتاجها عبر مخزون عاطفي وثقافي وروحي، يتلون تبعاً للفكرة، وجماليتها في مناخات مألوفة وغير مألوفة، وحس مرهف وشاعري، نلمسهُ في ذات الفنان. ] كيف ترى مستقبل الفن التجريدي؟ إن انتشار الوعي الثقافي عبر ثورة الاتصالات في العالم، مكن العالم من الاطلاع على رواد الفن التجريدي، والذين تركوا بصماتهم، وتم اقتناء لوحاتهم في مختلف الأنحاء، خاصة في أمريكا والغرب عموماً، أمثال الفنان الأمريكي العالمي جاكسون بولوك، والفنان وليم دكوني، ورائدة الفن التجريدي الحر، جوان ميشيل، ورواد آخرون، لكلٍ منهم بصمته الخاصة في أعمالهم التي اجتاحت العالم، وباتت متداولة، وتشكلت حولهم جماهير تقتنيها. ] بين التجريد والموسيقى علاقة، حدثنا عن هذه العلاقة، وعن علاقتك بالموسيقى؟ لقد ربط التجريديون فنهم بالموسيقى السمعية، عن طريق مفردات لونية، تهبط وترتفع في تناغمٍ لوني. أما أنا فاستمع لموسيقى الصحارى، والأديرة، والموسيقى الكلاسيكية، وأقوم بتفكيك مفردات هذه النوتات الموسيقية، وتحويلها إلى نوتات ومفرادت لونية، في كتلٍ ومساحاتٍ تتشكل عبرها اللوحة الفنية. ] كيف يمكن للفنان تعميق مفهوم الحرية عبر إضافة الفكرة مع الإبداع في اللوحة الفنية؟ جمالية الفن تكمن في كونه إخراج الطاقات الدفينة من مشاعر، وأحاسيس، على شكل إسقاطات لونية، وهي الدوافع التي تترك مكنونها الداخلي في الفنان، ليعبر عبر مزيج ألوانه بالفكرة التي تراوده بحريةٍ تامة، تاركًا للمتلقي تفسير وترجمة العمل، بمنظوره وحسه الخاص. ] ماذا عن فلسفة العمل الفني؟ لا يجب أن يُحمل الفن التشكيلي أعباءً لا يحتملها، ولا أرى بأن هناك فلسفة، بل هو تعبير، ومشاعر تأتي عبر طاقة حسية يتصيدها الفنان من صرخة الفضاء الكوني، ليخرجها عبر مشاعره ويسقطها على أعماله، عبر التعبير الرمزي المرتبط بالموسيقى البصرية، التي تتسع مدلولاتها ورموزها من حيث التشكيل على فهم المغزى لمعانٍ غارقة بمدلولات جمالية، تتأقلم مع الداخل والخارج، وتتسم بتراكيب تفترش اللوحة التشكيلية، بعناصر لونية، لإضفاء صفة الغموض، والرمزية الخاصة التي تروي حكايات الموسيقى البصرية. ] رأيك، كيف يشكل الفنان بصمتهُ التشكيلية؟ من الضروري أن يكون لكل فنان هوية تميزه عن غيره من الفنانين. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال كثافة العمل الفني، والاطلاع الثقافي، الذي يعودُ لهُ الدور الأكبر في تكوين الفنان لهويته وبصمته الفنية، والتي تبرز عبر أعماله، خاصة ونحنُ في خضم زخمٍ فكريٍ ثقافي، تفرضه العولمة، إذ يمكنُ للفنان، حتى في هذا الزخم، أن يشكل هويته، لتكون بارزةً في لوحاته وهي تتصدر صالات العرض.
مشاركة :