يزعم نجيب ميقاتي أنّه رئيس مجلس الوزراء اللبناني. هو ليس كذلك، لأنّه، في الواقع، ليس سوى رئيس لكيان "دفتري" غير موجود فعلياً. حاله هذه مثل حال السعر الرسمي للدولار الأميركي، إذ إنّ قيمته، وفق مصرف لبنان، تبلغ 1508 ليرات لبنانية، ولكنها، في الواقع، تحلّق في فضاء بلا سقف وتوقع البلاد والعباد، في حفرة بلا قعر. في المراسلات الأخيرة بين ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال عون، المتصلة بضرورة إصدار موافقات استثنائية لدفع الحقوق المالية المتوجّبة لمجموعة كبيرة من اللبنانيين العاملين في القطاعين العام والخاص، يتبيّن أنّ عدم إقالة الحكومة أخطر على هؤلاء من استمراريتها "الوهمية"، لأنّه "من المتعذر إصدار موافقات استثنئائية في ظل حكومة غير مستقيلة ولا هي في مرحلة تصريف الأعمال"، وفق ما يقوله عون ويصمت ميقاتي، حياله. وحلّ هذه العقدة يقتضي أن يجتمع مجلس الوزراء، إلا أنّ ذلك متعذّر، لأنّ "الثنائي الشيعي" لا يريد ذلك، فيما ميقاتي يرفض، بدوره، انعقاد المجلس من دون هذا المكوّن الذي يشترط أن تتمّ إطاحة المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، الأمر الذي ترفضه مكوّنات حكومية أخرى، لأنّه "محظور" دستورياً، من جهة، ولأنّه سيتسبّب بأزمة داخلية ودولية، من جهة أخرى. وفي تقييم قدّمه رئيس الدبلوماسية الفرنسية جان إيف لودريان أمام لجنة الشؤون الخارجية في "الجمعية الوطنية"، أوّل من أمس، تحدّث عن هذه النقطة، فلفت الى أنّ مجلس الوزراء اللبناني "معطّل" بسبب شرط مرفوض ومدان، يفرضه مكوّن سياسي استغلالاً للتحقيقات في قضية انفجار مرفأ بيروت من أجل أهداف سياسية، بما يتناقض مع حق اللبنانيين في معرفة الحقيقة. في هذه الحالة، لماذا الإبقاء على حكومة أصبحت بوهميتها الوجودية تنعكس، سلباً، على حقوق مكتسبة لعدد كبير من اللبنانيين، فيما احتمال ضخّ الحياة فيها لا يقوم إلا إذا نجحت عملية تحويلها إلى مسخ يقتات من دماء اللبنانيين وحقوقهم؟ في بداية حديثه عن لبنان قال لودريان للبرلمانيّين الفرنسيين إنّ لديه نقطة جيّدة وحيدة يمكن أن يتحدّث عنها، وتتمثّل في النجاح بوصل ما انقطع، بمساهمة من رئيسه إيمانويل ماكرون، بين الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي من جهة، ودول الخليج العربي عموماً والمملكة العربية السعودية، خصوصاً، من جهة أخرى. الغريب في هذا المشهد أنّ الكاميرا لم تلتقط أيّ برلماني فرنسي يرسم ابتسامة صفراء على شفتيه، عندما سمع ذلك، كما فعل بعض اللبنانيين الذين كانوا يتابعون وقائع الجلسة. وما يملي هذه الابتسامة أنّه منذ الاتصال الهاتفي الذي أجراه ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، من جدّة في الرابع من كانون الأول (ديسمبر) الأخير، بميقاتي، لم يتردّد "حزب الله" في اتّخاذ أيّ خطوة من شأنها إظهار عجز رئيس مجلس الوزراء "الدفتري"، فنظّم مؤتمراً للمعارضة البحرانية، ومن ثمّ أطلق من خلال أمينه العام حسن نصر الله هجوماً ضد القيادة السعودية، قبل أن يحتضن اجتماعاً لما يسمّى بالمعارضة الخليجية. وهنا أيضاً، يفترض تجديد طرح السؤال: لماذا الإبقاء على حكومة يعجز رئيسها عن تثمير مسعى فرنسي استثنائي يهدف الى جسر الهوة بين لبنان ودول لها تأثير حاسم في إنقاذه من المأساة التي يتخبّط فيها؟ عندما يسأل ميقاتي عن سبب عدم تقديم استقالته، يجيب بما معناه أنّ القبطان لا يمكن أن يترك سفينته الغارقة وسط الأمواج. جواب مؤثّر، بطبيعة الحال، في زمن يتصدّر فيه فيلم "سبايدرمان: نو واي هوم" شباك تذاكر السينما العالمية، ولكن متى تبيّن أنّه منذ جرى تعيين "هذا القبطان" تضاعف سعر الدولار الأميركي في السوق الحقيقية، وتعملقت شريحة الضعفاء، وتعطّل ما كان متبقياً من مؤسسات عاملة، وتضخّمت إرادة الهجرة، وأقفلت أبواب الحلول، فإنّ الإشكالية التي تفرض نفسها على الجميع تصبح متعلّقة بالتفتيش عن أضرار نوعية يتسبّب بها تشبّث "هذا القبطان" بقيادة سفينة أصبح وجودها ضرباً من السراب والوهم، أو مجرّد تركيبة افتراضية في لعبة إلكترونية... قذرة. في الواقع، إنّ استمرار ميقاتي في رئاسة مجلس الوزراء "الدفتري" أصبح خدمة لـ"الأمواج العاتية"، فهو يوفّر غطاءً معنوياً للمعرقلين، ويضع المتسببين الرئيسيين بانهيار لبنان في موقع ثانوي، وينقل النقاش من المواضيع الجوهرية ليركّزه على المسائل الهامشية. ولأنّ ميقاتي متمسّك بموقعه، فإنّ "حزب الله" لا يتوانى عن إلقاء المواعظ بصورة شبه يومية عن ضرورة أحياء الحكومة والمؤسسات التي يقف هو وراء تعطيلها لأهداف غير نبيلة، فيما يطل رئيس الجمهورية ميشال عون الذي هو نتاج دائم للفراغ والداعم الأساس للنهج التدميري، مرجعاً دستورياً وداعية حوار. بالتأكيد، حان الوقت لبحث حقيقي وعميق وموضوعي في جدوى استمرارية نجيب ميقاتي في موقعه الدستوري، من خلال تقييم الأضرار المتنامية سياسياً، وطنياً، مالياً، اقتصادياً، ودبلوماسياً. إنّ ثقافة "تبويس اللحى" قد تصلح في دول يمكن أن تواجه مصاعب، إذا ذهبت الى "صدام الخيارات"، ولكنّ أيّ قيمة تبقى لهذه الثقافة التي ينتهجها ميقاتي، في بلد لم يعد يمكن إنقاذه إلا بتشخيص وطني شفّاف يستحيل توافره من دون إفساح المجال أمام وضوح الخيارات؟
مشاركة :