الجزائر تستقبل ممثلي الفصائل الفلسطينية، لكن لا أحد يعرف إلى الآن حدود هذا الاستقبال وأهدافه، هل سيقدر فعلا على إنجاح مصالحة سبق أن أفشلتها تلك الفصائل المتصارعة في مؤتمرات ولقاءات سابقة بالقاهرة ومكة وغيرهما. وهل هدف الاجتماع الفلسطيني هو نوع من الاستعراض السياسي والإعلام للنظام الجزائري لإثبات قدرته على التجميع؟ تحتاج الدولة الجزائرية إلى سنوات لفهم أزمة الفصائل الفلسطينية وفك شفراتها وسنوات أخرى كي تتمكن من إحداث مصالحة سياسية حقيقية بينها، حيث وصلها السبت وفد حركة فتح بقيادة عزام الأحمد، ثم يتوالى وصول الوفود تباعا، حماس، ثم الجبهة الشعبية، ثم الجبهة الديمقراطية، ثم الجهاد الإسلامي، وستجري الجزائر حوارات منفردة ومنفصلة مع كل حركة، ما يعني أنها تبدأ من نقطة الصفر. ويبدو أن الدولة الجزائرية لا تعلم أن مصر أمضت، ولا تزال، حوالي عشر سنوات في حوارات شبه متواصلة مع الفصائل ذاتها ووقعت اتفاقيات رضائية معها جرى نقضها قبل أن يجف حبرها، أو أنها تريد خوض التجربة ربما يكون حظها أفضل من مصر التي تهتم بالقضية الفلسطينية منذ عقود لدواع وطنية وقومية وتعيش غالبية الفصائل على مرمى بصر من أراضيها. من حق الجزائر أن تدخل على خط أيّ أزمة ترى أنها قادرة على حلها، لكن إذا أرادت التوصل إلى تسوية فعلية عليها الوقوف على الأسباب التي أدت إلى فشل القاهرة في عدم نجاح حوارات إنهاء الانقسام حتى الآن، ودراسة الدوافع التي أفضت إلى عدم تنفيذ اتفاق مكة في السعودية. يعني البحث في الأزمة منذ بدايتها وعقد لقاءات مع الحركات المختلفة أن الجزائر والفصائل لا يبحثان عن تسوية حاليا، ويريدان استهلاك المزيد من الوقت والإيحاء بأن هناك عملية سياسية تجري بإشراف الجزائر ومشاركة فلسطينية بصورة يمكن أن تخفف الضغوط الواقعة على كاهل الفصائل المتهمة بأنها تعرقل مسار المصالحة، وقد تمنح الخطوة الدولة الجزائرية ما تريده من انهماك في قضايا خارجية توفر لها مساحة للحركة الإقليمية ما دعاها لاختيار ملف عاطفي يصعب أن تجد معارضة فيه. من حق الجزائر أن تدخل على خط أيّ أزمة ترى أنها قادرة على حلها، لكن إذا أرادت التوصل إلى تسوية عليها الوقوف على الأسباب التي أدت لفشل القاهرة في عدم نجاح حوارات إنهاء الانقسام من حق الجزائر أن تدخل على خط أيّ أزمة ترى أنها قادرة على حلها، لكن إذا أرادت التوصل إلى تسوية عليها الوقوف على الأسباب التي أدت لفشل القاهرة في عدم نجاح حوارات إنهاء الانقسام وأطلق الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في السادس من ديسمبر الماضي دعوة لاحتضان مؤتمر للفصائل الفلسطينية لم ترفضها أيّ من الحركات المعنية بها، وربما جاءت الردود متأخرة، غير أنها تجاوبت معها في النهاية، فقد تراجعت الكثير من ملامح المرحلة التي كانت تحسب فيها الفصائل على دول وتتمسك بتعليماتها، ولم يعد هناك معسكر يتبع محور المقاومة وآخر يتبع السلام. تراجعت المقاومة والسلام معا وتداخلت الفصائل الفلسطينية على المحاور المتباينة، وفي الوقت الذي تبدو فيه حركة فتح مثلا قريبة من مصر لا تجدها بعيدة عن تركيا، وفي الوقت الذي اقتربت فيه حماس من إيران يمكن أن تنفتح على السعودية، ويمكن التأكد من التغير الحاصل في الولاءات بسهولة، وهو ما جعل دعوة الجزائر لا تجد ممانعة علنية من أحد، لا من الفصائل أو الدول التي على علاقة بها. وتوقع الكثيرون أن تكون مصر أكثر الدول ضيقا من الخطوة الجزائرية، لكن العارفين بثوابت موقفها لم يراودهم الشك في أنها تدعم كل خطوة باتجاه حلحلة مسألة إنهاء الانقسام، كعائق رئيسي أمام حل الكثير من الأزمات التي تواجه القضية الفلسطينية، فلم تعترض القاهرة على مؤتمر مكة، ولم تبد انزعاجا من لقاءات عقدت في الدوحة، ولم تتذمر من مؤتمرات تركيا أو لبنان حضرتها فتح وحماس وفصائل أخرى. ووفرت الجغرافيا السياسية عنصر أمان كبير لمصر، فلا تستطيع دولة تجاوز دورها في هذه القضية، لأن التكلفة لا تتوقف عند اجتماع يعقد هنا أو هناك، أو لقاء يتم فيه التقاط صور وتوظيفها لأغراض سياسية، حيث أمضت القاهرة نحو عقد من الزمان على أمل إنهاء الانقسام الفلسطيني ولم تتمكن من الحصول على النتيجة المرجوّة. فتدخّل الجزائر أو غيرها لا يضير الدولة المصرية في شيء، لأن المشكلة ليست في الدور الذي تلعبه والمكان الذي تعقد فيه لقاءات المصالحة، بل في الفصائل نفسها التي جعلت من التباعد هدفا، ومن الخصام وسيلة للابتزاز، والتخلي عن المسؤوليات الوطنية، فالمحادثات التي عقدت في القاهرة على مدار سنوات تكفي لتفكيك كل العقد الداخلية الفلسطينية لو كانت النوايا صافية وخاصة لدى قيادات الفصائل. تحتاج الجزائر لتخوض التجربة بنفسها لتتمكن من معرفة أصل الداء، وكان بإمكانها التواصل مع مصر لفهم الأبعاد التي حالت دون نجاح العديد من المبادرات، ما يعني أن استضافة الفصائل لها أغراض تتجاوز حدود العمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني، وترتبط بحسابات الدولة الجزائرية التي تريد الاشتباك مع قضايا تراها ساخنة. لا أعلم هل الجزائر على علم بأن الأزمة بين الفصائل باتت تتجاوزها أم لا، بمعنى إذا نجحت في استيعاب أصل المشكلة وفهمت تقديرات كل طرف ووصلت إلى اتفاق بينهم، وهو ما يحتاج إلى وقت طويل، هل تعلم آليات تنفيذه؟ فلم تعد عملية الانقسام قاصرة على الشق الفلسطيني، فهناك شق إقليمي وآخر دولي، وفي القلب منهما إسرائيل. ماذا ستفعل الجزائر لتجبر إسرائيل على إنهاء الحصار على قطاع غزة، وما هي تصوراتها لإجبار الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) على إجراء انتخابات يصعب اتمامها دون التعاون والتنسيق مع إسرائيل، وما هو الدور الذي يمكن أن تقوم به في الحفاظ على وقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل؟ هناك أسئلة كثيرة ترتبط بالمصالحة الفلسطينية، فلم تعد عنوانا لأزمة داخلية فقط ويمكن تخطيها بمجرد التوصل إلى تفاهمات بين الحركات من خلال محادثات وحوارات، حيث وصلت العقدة إلى مستوى يصعب فصلها عن البعد الإسرائيلي الذي بات جزءا أساسيا في المصالحة وما تترتب عليه من تداعيات إقليمية. لن تستطيع الجزائر تحريك أزمة المصالحة الفلسطينية إلى الأمام ما لم تكن لها علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، فإذا افترضنا أنها نجحت في مسعاها وأقنعت الفصائل على توقيع اتفاق ينهي الانقسام كيف ستتحاور مع إسرائيل وهي التي تراها عدوا لدودا، أم تتخذ من المصالحة بابا خلفيا أو متكأ لتمديد خيوط التواصل معها؟ تدخّل الجزائر أو غيرها لا يضير الدولة المصرية في شيء، لأن المشكلة ليست في الدور الذي تلعبه والمكان الذي تعقد فيه لقاءات المصالحة، بل في الفصائل نفسها تشير الأجواء العامة في الجزائر والمنطقة إلى أن اقترابها من ملف المصالحة يواجه بتحديات كبيرة، ومن الصعوبة أن تحرز فيه تقدما ملموسا، وقد استغلت تعطش الحركات الفلسطينية للعودة إلى الأضواء، وإبراء ذممها السياسية بعد اتهامات طالتها بأن عجزها تسبب في تردي أوضاع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة. تحاول حركة حماس استثمار الدعوة الجزائرية في تخفيف الضغوط الواقعة عليها لحثها على توقيع اتفاق شامل مع إسرائيل، واتخاذ حوارات الجزائر المتوقع أن تستغرق وقت طويلا ذريعة لتأجيلها مناقشة هذا الملف مع القاهرة، واستهلاك المزيد من الوقت إلى حين تتغير الأوضاع في المنطقة بما يصبّ في صالحها. يظل التحرك الجزائري مفتقدا للكثير من الآليات التي تساعده على تحقيق تقدم، لأن كل طرف فلسطيني تجاوب معها لديه حسابات بعيدة تماما عن التوصل إلى مصالحة مستقرة، فلو لم يكن الانقسام موجودا لاخترعته الفصائل الفلسطينية لأنه الوسيلة التي يتغذى عليها البعض، والقناة التي تضمن استمرارهم على قيد الحياة السياسية.
مشاركة :