يطرح عرض «هدوء تام»، حالة انسان القرن الواحد والعشرين، في ظل طغيان التكنولوجيا، وسيطرة الميديا على حياته، ويتضخم لديه شعور بالتضاؤل، والعجز، وعدم القدرة على مواجهة العالم الكبير، الذي يتحرك بسرعة، من دون ان يلتفت اليه، ومن دون ان يسمع ما يدور داخله، ومن دون ان يستطيع الانسان رغم كل هذه التكنولوجيا ان يوصل صوته فعلا الى احد. ومن ثم فإن الفكرة الرئيسية التي يبدأ وينتهي منها العرض هي: سؤال القهر والحرية. تعد المشاركة البحرينية هذا العام بعرض «هدوء تام»، من تأليف الكاتب البحريني يوسف الحمدان، وإخراج وسينوغرافيا عبدالله البكري؛ من المشاركات المميزة، ضمن منافسات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. يختلف المسرح التجريبي عن غيره، كونه قادرا على التحرر من حاجز اللغة، حيث تلعب الحركة والايماءة دورا كبيرا في التعبير عن اعماق الانسان، ولذلك يقبل معظم مخرجي المسرح المعاصر على الاعتناء بجسد الممثل، لذا نجد معظم مخرجي المسرح الحديث وخاصة المسرح التجريبي قد أولوا اهمية كبيرة لجسد الممثل. يعتمد العرض على شخصية واحدة، وخمسة ممثلين، حيث تشكل الشخصيات الأربعة، التي ترتدي ثيابا أقرب الى لون الجلد؛ صورة من صور التفاعلات التي تحدث في منطقة ما هذيانية من عقل البطل الذي يرتدي ثيابا بيضاء، وجاكيت اسود، وعلى جسده تلتصق العديد من الأشرطة السوداء. ومن ثم يمكن اعتبار هذا العرض اقرب الى المونودراما. يستغني العرض عن المحاكاة الأرسطية للطبيعة سواء على مستوى الصورة او الأداء التمثيلي، ويستبدلها بمنهج مايرهولد وأسلوب البيوميكانيك، الذي يعتمد على تدريب الممثل جسديا حتى يستطيع التخلص من اثر الكلمة والحوار اثناء الأداء التمثيلي. وإذا كان ستانسلافسكي قد دعا الى التوحد بين الممثل والشخصية التي يقدمها؛ فإن مايرهولد يرى ان الممثل لا بد ان يكون له موقف خارجي من النص والعرض. ويعبر عرض هدوء تام عن عالم ابعد ما يكون عن الهدوء، فطوال العرض تختلط الأصوات القادمة من نشرات الأخبار، والبرامج الدينية، وتصريحات المسؤولين، لتصبح الضجة الفارغة هي كلمة مفتاحية للولوج الى هذا العرض. ومن قلب كل هذه الضوضاء يبرز صوت خارجي، يخاطب البطل ويؤثر عليه، ويبشره بأنه الآن صار جزءا من كل هذه الضجة البائسة: «كل الأصوات أصبحت صوتك». حتى الصمت؛ يمكن الرقص على ايقاعاته. من هنا تتلاشى كل الأصوات، ويبدأ الممثلون في الرقص، من دون موسيقى، ولكنه رقص له ايقاع منضبط، يمثل دلالة على قهر الانسان لنفسه، وقهر الحياة للإنسان، من خلال ايماءات الأكف، والطرق على الأرض احتجاجا. يعتمد الأداء التمثيلي في عرض هدوء تام على الاشتغال على الجسد، والحالات النفسية التي يتم التعبير عنها من خلال الجسد؛ فالعرض يدور في حوالي 35 دقيقة، ورغم ان مناطق الحوار قليلة جدا فإن العرض شديد الصخب، بسبب الأصوات الخارجية المتداخلة، من نشرات الأخبار، والاسطوانات المسجلة، والسوشيال ميديا المتدفقة باستمرار. يمثل الفضاء المسرحي، بكل مكوناته من اسلاك كهربائية، وبكرات افلام سينمائية، وأشرطة تسجيل مبعثرة هنا وهناك؛ اعماق الانسان العربي، الذي يشعر في داخله بالقهر من تلاطم اصوات الضجيج الالكتروني. ويعمق الصورة توزع عدد من سماعات الدي جي الضخمة، التي يتم استخدامها لتحديد مساحة التشخيص، اذ كيف يمكننا ان نتبين صوت الانسان وسط كل هذه الضوضاء؟ ولذلك تصبح الدعوة الى الهدوء مجرد امنية بعيدة المنال. يشكل جسد الممثل نقطة انطلاق اولى للولوج الى عالم العرض، والتواصل مع عناصره السينوغرافية، والكيروجرافية، ما يمنح الجسد الأولوية في عرض هدوء تام، وسعيه الى صياغة جمالية جديدة. يتم الاعتماد على فيزياء الجسد في التعبير عن حالات الحزن، والقهر، والتيه، والانزعاج، من خلال الايماءة والحركة، وعندما يصعد البطل على كتفي احدى شخصياته، يتم تجسيد حالة التسيد، والخضوع للامتطاء من خلال كتلة جسدية اشبه بعربة الخيول. ومن خلال تعبيرات كيروجرافية عن حالة الخضوع، والامتثال للضجيج، تتضح الصورة العبثية للوضع في ظل ازمة كورونا، حيث تتلاطم النشرات الاخبارية بسرعة من كل دول العالم، حول الكارثة التي يعيشها العالم في ظل جائحة كورونا، بينما يجلس الممثلون امام اجهزتهم المحمولة في لامبالاة. { ناقد مصري
مشاركة :