تعرف الدراسات الثقافية بأنها تخصص أكاديمي يعنى بالتحليل الثقافي نظريا وتجريبيا، تعود نشأتها إلى عدد من الأكاديميين الأوروبيين لكنها تطورت في اختصاصاتها لتشمل جميع أنحاء العالم. وسيجد المتتبع لهذه الدراسات أنها تتناول مجموعة واسعة من الآراء والممارسات المنهجية والنظرية، وفي هذا الشأن نطرح جملة من التساؤلات تتعلق بعلاقتها بالهوية وتنوعها في العالم العربي على وجه العموم، وتوافق مضامينها مع حدود الفلسفة والمعرفة على وجه الخصوص. في إطار علاقة الدراسات الثقافية بالهوية وتنوعها في العالم العربي على وجه العموم وتوافق مضامينها مع حدود الفلسفة والمعرفة على وجه الخصوص يقول الناقد إدريس الخضراوي “في الوقت الذي تعرف فيه الدراسات الثقافية دينامية خاصة في المشهد الثقافي العالمي بعد الفورة التي حققتها من خلال متن واسع من الأعمال والنصوص والمقاربات التي استطاعت أن تكتسح المشهد النقدي وأن تعيد النظر في مفهوم النقد بوصفه قلقا متزايدا، مدعومة بنوعية الأسئلة التي حملتها والمنافذ التي فتحتها إلى مسارات جديدة للتفكير في الثقافة والأدب، مازالت الدراسات الثقافية في السياق العربي محرومة من الاعتراف الكامل، بعيدة عن المؤسسات الأكاديمية”. ويعتبر أن السؤال المتعلق بجدوى هذا المشروع النظري، وكيفيات ملاءمة المشكلات الاجتماعية والثقافية في البيئة العربية مع الرهانات التي رفعها في الثقافات التي تكون فيها، لا يزال يشكل الهاجس الأساس بالنسبة إلى المشتغلين بالدراسات الثقافية. التعدد الثقافي يقول الخضراوي “عندما ننظر إلى الدراسات الثقافية من منظور يتأسس على رهاناتها السياسية والنقدية، يتبين المدى الذي يبدو فيه هذا الإبدال مفيدا بالنسبة إلى الثقافة العربية بصورة عامة والأدب بشكل خاص، بخلاف المقاربات التي تنتزع الظواهر والممارسات الثقافية من العالم الذي تتحقق فيه”. ويتابع “تسعى الدراسات الثقافية لإيقاظ الوعي النقدي، والانتباه إلى الخلفيات والأبعاد السياسية والاقتصادية والتاريخية، والأصوات المتعددة التي تشكل الثقافة وتتشكل فيها. ليست الثقافة فضاء أحادي الصوت، بل هي موقع متميز للحوارية وتعدد الأصوات والصراع والتوتر بين المعتقدات والأفكار والمواقف التي يعبر عنها الأفراد والجماعات، وبما أن المجتمعات العربية غنية بالتعددية في أبعادها العرقية والثقافية واللغوية، فإن الدراسات الثقافية تمثل حقلا مهما للبحث والتفكير وإنتاج الفهم بمختلف أشكال وضروب التمثيل التي تحدث فيها، وتعد الثقافة أحد أهم المواقع التي ينشط فيها التمثيل”. ☚ الاستفادة من الدراسات الثقافية ضرورية لرفع اللبس وتوضيح الرؤية بخصوص تعدد عناصر الهوية في البلدان العربية ويشير إلى أن الأدوات والمفاهيم واستراتيجيات القراءة المعتمدة فيها لا تتيح المجال لفهم الظواهر المعقدة التي تواجه العيش في عالم متعدد، بل إنها تستثير لدى القارئ الحاجة إلى القراءة السياسية اليقظة. ويقول الناقد والباحث الثقافي مبارك الجابري في شأن علاقة الدراسات الثقافية بالهوية وتنوعها في العالم العربي على وجه العموم وتوافق مضامينها مع حدود الفلسفة والمعرفة على وجه الخصوص “ارتبطت الدراسات الثقافية منذ النشأة بمسألة الهوية، وليس ببعيد أن يكون للأصول المهاجرة لروادها دخل في ذلك، فستيورات هال مثلا الذي عقب ريتشارد هوغارت على رئاسة مدرسة برمنغهام كان جامايكي المولد، قد كان له تأثير مباشر وقوي في توجه الدراسات الثقافية ببرمنغهام، إضافة إلى العلاقة الوطيدة بين اشتغالها واشتغال مدرسة فرانكفورت التي يمكن أن يقال في أساتذتها ما يقال في أساتذة مدرسة برمنغهام، فقد تبلور كثير من رؤاهم إبان انتقالهم من ألمانيا إلى الاستقرار حينا من الزمن في نيويورك، وكانت لإسهاماتهم تأثيرات كبيرة في التبلور النظري الذي حصل لحقل الدراسات الثقافية”. ويضيف “تبدو العلاقة وثيقة بين مسألة الهوية واشتغال الدراسات الثقافية، فقد شكلت واحدا من أهم الأسئلة التي طرحت على رواد هذا الحقل البحثي منذ البدء، ويوفر هذا المبحث مسارا جيدا ومهما للاشتغال في العالم العربي بما فيه من غنى ثقافي يعززه التنوع، إضافة إلى الحالة الحضارية التي تعيش فيها هذه المنطقة من العالم بفعل استقرارها في بوتقة التأثر المباشر بمعطيات العولمة وتأثيرات أخرى، وهي كلها معطيات كان وما يزال لها تأثيرها في تشكيل الهوية وصنع صراعات الذات”. ويوضح الجابري أن الاشتغال وفقا لمنهجية الدراسات الثقافية هو اشتغال يتعاطى مع جوانب شتى من المباحث الإنسانية؛ إذ لا يمكن للمحلل الذي يعتمدها إلا أن يكون موصولا بمعطيات الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الأدبي وما إلى ذلك من مباحث إنسانية يمكن لها أن توفر له الأداة لتفكيك مادة التحليل، وهو الأمر الذي يميز هذا الحقل البحثي عن غيره، فهو حقل يجعل المجال مفتوحا للمحلل للوفاء بالتحليل دون قيود منهجية تسور اشتغاله؛ ومن هنا تأتي الأدوات المتوخاة في الدراسات الثقافية على التوسع وتجاوز الاختصاصات بما يجود التحليل. وللناقدة فاتحة الطايب رأي تتقارب معطياته في علاقة الدراسات الثقافية بالهوية وتنوعها في العالم العربي على وجه العموم تقول “يعد سؤال الهوية بصفته سؤالا ثقافيا اجتماعيا متصلا بقرار سياسي، من صلب اهتمامات الدراسات الثقافية التي تهدف بالأساس إلى دمقرطة الثقافة الإنسانية والاحتفاء بمختلف الصيغ الثقافية في المجتمع الواحد، فربطها بين اللغوي الثقافي، الاجتماعي والسياسي أدى بها منذ تشكلها حتى اليوم إلى العناية بسياسات الهوية التي احتد النقاش بخصوصها في الغرب في سبعينات وثمانينات القرن الماضي تحديدا، الشيء الذي أثمر في النهاية إعادة تحديد مفهوم الهوية في علاقتها بالتعددية الثقافية التي تمثل جوهرها، وفق منظور شتى المجالات المشكلة للدراسات الثقافية”. وتضيف “بما أن التداخل الحتمي بين اللغوي/ الثقافي والاجتماعي/ والسياسي يجعل من سؤال التعدد الثقافي سؤالا مليئا بالمشاكل وحافلا بالالتباسات في البلدان العربية، التي يشهد بعضها على غرار بقية بلدان المعمورة جدلا ساخنا ونقاشات حادة بخصوص سياسة التعدد اللغوي والثقافي تترجم اختلاف التصورات حول الرابط الاجتماعي ومفهوم الهوية من ناحية، وسوء فهم أو مبالغة في التقدير من ناحية أخرى، فإن الاستفادة من الدراسات الثقافية تعد أمرا ضروريا لرفع اللبس وتوضيح الرؤية بخصوص تعدد عناصر الهوية في البلدان العربية”. فكر الهوية توضح الطايب أن من بين أهم النقاط التي تمس جدال الهوية في البلدان العربية والتي أضاءتها الدراسات الثقافية، وهي تثير الانتباه أن الهوية بناء دينامي لا يعرف الثبات، تتجاذبه اتجاهات سياسية واجتماعية وإثنية وثقافية ونفسية متشعبة تتمثل في أن الغاية الأساسية من الاعتراف بالتعددية الثقافية هي ‘منح مواطنة كاملة‘ في إطار الاختلاف ضمن الوحدة، لأن المواطنة ليست مجرد حمل جواز سفر، وامتلاك حق التصويت، بل إنها تتضمن أيضا قدرة المرء على أن يسهم في هوية وطنية عبر إرثه، ورؤاه، ومعتقداته. أما في ما يتعلق بتوافق مضامين الدراسات الثقافية مع حدود الفلسفة والمعرفة على وجه الخصوص فتقول الناقدة الطايب “حقل الدراسات الثقافية يرسخ بصفته درسا أكاديميا في العالم الأنجلوفوني انطلاقا من استيعاب النظرية المعرفية الفرنسية ما بعد الحداثية، نجد من المنطقي أن يرتكز رواد هذا الحقل في إعادة تعريفهم للهوية بما يحترم تعدد عناصرها وديناميتها، على المرجعية الفلسفية والمعرفية ما بعد الحداثية، أي على فلسفة الاختلاف التي تعد في العمق نقدا موجها لفكر الهوية أحادي البعد أي للمفهوم الذي يتعمد تذويب الاختلافات عن طريق التنميط، وهذا يعني أن الإيمان بالاختلاف يتضمن بالضرورة التسليم بهوية متعددة، على أساس ارتباط تاريخ التعدد الإثني”. العلاقة وثيقة بين مسألة الهوية واشتغال الدراسات الثقافية، فقد شكلت واحدا من أهم الأسئلة التي طرحتها وأخيرا وفي ذات السياق حيث الدراسات الثقافية وعلاقتها بالهوية وتنوعها في العالم العربي على وجه العموم وتوافق مضامينها مع حدود الفلسفة والمعرفة على وجه الخصوص يقول الباحث في علم الاجتماع والسياسات العامة مبارك الحمداني “الأهمية المتصاعدة التي تحظى بها الدراسات الثقافية اليوم تأتي في تقديري من بعدين مهمين أولهما في قدرتها على عبور الاختصاصات، حيث تقتضي بالمشتغل في حقولها أن يتملك نظرة علوية فاحصة تسندها اختصاصات الأدب والاجتماع والاقتصاد والتحليل النفسي والتاريخ واللغة، وفي البعد الثاني فإنها تقتضي من المشتغل فيها امتلاك ما أسميه العين ما وراء النصية وهي تلك التي تذهب إلى ما وراء النص، أيا كان شكل هذا النص، وعليه فإن بكر التخصص وندرة المشتغلين في عالمنا العربي وفي الخليج على وجه الخصوص قد يكون مسوغا للأسباب ذاتها”. ويضيف الحمداني “تتعامل الدراسات الثقافية مع كافة أشكال التعبير التي تعبر بها الجماعة الاجتماعية عن نفسها سواء كانت تلك الأشكال مؤسسة ‘أدبيا وفنيا‘ أو كانت عفوية ينتجها تداول المعيش وتحولاته وصراعاته وانتقالاته، فهي تتعامل مع النص الأدبي ومع النص المسرحي كما تتعامل مع الأغنية الشعبية والأمثال والمأثورات وتتعامل مع الكتابات الجدارية مثلما تتعامل مع أشكال اللباس والتقليعات وكل أداة يمكن أن تعبر بها الثقافة عن ذاتها وتكشف من خلالها بنيتها”. ويوضح “رغم أنها مازالت تحفل بالكثير من الجدل حول منهجها وأدواتها في التحليل وقدرتها على تطوير منهاج مستقل، إلا أن مغانمها كثيرة حيث تستطيع فهم تشكلات الثقافة الأولى والعناصر الأساسية والتاريخية التي أسهمت في بلورتها وطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أسهمت في نشأتها وتسهم الآن في تحولاتها وكيف تكون الثقافة أداة/ وناتجا لصراعات الهياكل السياسية والاجتماعية والرمزية في مجتمع ما وغيرها من التأويلات التي يكشفها النص بمفهوم الدراسات الثقافية”. ويخلص إلى أن الدراسات الثقافية “بالتالي تغدو في الآن ذاته كاشفا عن تحولات الهوية ذلك أنها تستطيع أن تعرفنا بالخط الذي تنتقل فيه الهويات وكيف تؤثر على بعضها البعض من خلال النقل عبر المنتجات الثقافية وما هي أكثر عناصر الهوية هشاشة وأكثرها صلابة من خلال التحول الثقافي في المجتمع والنص الثقافي، وهل العناصر المشكلة لهذه الهوية عناصر أصيلة أم أنها قابلة للتعريض الثقافي ذلك أن الوسيلة التي تشتغل عليها الدراسات الثقافية في سبيل الكشف عن ذلك ما يسميه سايمون ديورنج البعد (البينذاتي) الذي يتحاشى الهويات المنعزلة إلى استدماج عناصر ضمنية كامنة واستنطاقها من خلال أشكال التعبير عن الثقافة مثل الأفكار المختبئة والرغبات النسقية التي يعبر عنها النص”.
مشاركة :