مع اقتراب عمر إدارة بايدن من منتصف مدتها بالحكم، وفى ظل استعدادها لمساعدة حزبها الديمقراطى لترتيب دخوله انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، لا يبدو هناك جديد فى مساحات الوضوح المتعلق بسياستها فى ملفات الشرق الأوسط. ويكاد يُجمع الكثيرون على أن أداءها لا يتجاوز «الحد الأدنى» من التفاعل مع مشكلات المنطقة، فى حال طُرحت تساؤلات عن الرؤية الأمريكية الحالية المتعلقة بملفى سوريا والعراق بالخصوص، بسبب وجود قوات عسكرية أمريكية يُفترض أنها فى حالة انخراط عميق فيهما، بعد أن تجاوزت تلك القوات عقداً كاملاً على أراضى وتفاعلات كلتا الدولتين. اليوم تبدو إدارة بايدن عازفة عن تبنى طموحات كبيرة، بعد أن تخلت تدريجياً عن استثمار ما يكفى من رأسمالها السياسى فى إحداث أى اختراقات، لا سيما وأزمات العراق وسوريا واضحة الارتباط مع جهود مكافحة الإرهاب، ولصيقة أيضاً بالدور والإمكانات الإيرانية المتنامية أمام مصالح حلفاء واشنطن، الذين مضوا قدماً معها منذ سنوات ويقفون اليوم وحدهم تقريباً فى فراغ وصفوف السائلين. الرئيس الحالى جو بايدن فعلياً هو الأكثر اطلاعاً على هذه القضايا من أى رئيس عرفته الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، لكن الصورة تبدو أكثر تعقيداً من حدود المعرفة والإلمام، فتفسير المحيطين بالرجل أن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط تغيرت بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية، على النحو الذى لا يبدو أن الكثيرين فى المنطقة قد استوعبوه بعد أو يرغبون فى تصديقه. مفاد هذا التغيير أن حماية آبار النفط ووسائل نقله من الموانئ وتأمين الطرق البحرية، فضلاً عن حماية دولة إسرائيل، مما كان يستلزم نسج التحالفات وإقامة الشراكات الإقليمية، لم تعد أولوية أمريكية بعد تراجع النفط كسلعة استراتيجية وتحقيق الاكتفاء الذاتى منه، وبالنظر إلى وصول إسرائيل إلى مرحلة استقرار إقليمى جعلت الأخطار الوجودية شأناً من الماضى. لكن فى حال أمكن للدول المستقرة نسبياً بالمنطقة أن تتكيف مع هذا التبدل الاستراتيجى الأمريكى، يظل هناك من هو عالق فى طيات ارتباك التغير الذى لا يبدو متماسكاً أو حريصاً على ترتيب المنطقة التى سكنها لعقود، أبرز هؤلاء هما العراق وسوريا وكلاهما لا يتحمل النموذج الأفغانى فى حال فكرت واشنطن فى ذلك. فيما يخص سوريا التى يبدو ملفها أكثر غموضاً وتعقيداً، حدد الخبراء الأمريكيون ثلاثة أهداف رئيسية لإدارة بايدن، وهى هزيمة داعش، ودعم وقف إطلاق النار خاصة فى غرب سوريا، والتأكد من وصول المساعدات الإنسانية، خاصة إلى شمال غرب سوريا فى إدلب وشمال حلب. وبجوار تلك الأهداف هناك حزمة من الاعتبارات لا تقل أهمية عنها، أولها أن الولايات المتحدة لا تملك حث نظام الأسد على تقديم تنازلات تخدم أهدافها سوى سلاح العقوبات، وثانياً أن واشنطن بعد سنوات مكوثها فى سوريا أخفقت فى امتلاك آلية ردع للنفوذ والتغلغل الروسى الإيرانى المؤثر على قرار دمشق، وإمكانيات صمودها أمام الضغط الأمريكى الواهن. ويبقى الاعتبار الأخير المرتبط بالالتزام الذى قدمته واشنطن لحلفائها فى قوات سوريا الديمقراطية بعدم الانسحاب، خاصة مع عدم معارضة الرأى العام لاستمرار القوات الأمريكية فى عمليات محاربة الإرهاب من المناطق الكردية فى الشمال السورى، للحيلولة دون استعادة «داعش» لقدراته فى سوريا أو العراق. تضع الإدارة الأمريكية هذه الاعتبارات نصب عينيها، ما يجعل البدائل أمامها شحيحة، فى ظل مخاوف من أن يؤدى انسحاب قواتها إلى عواقب مشابهة لما حصل فى أفغانستان، وهذا سيُلحق ضرراً بالغاً بشعبية الرئيس بايدن التى ستنسحب بالضرورة على حزبه ومرشحيه المحتملين. لذلك هناك تيار لا يخجل من إعلان الفشل الأمريكى الكامل فى سوريا، وأن محاولة تصوير الوضع على غير ذلك هو تجميل لصورة الإدارة الحالية التى لم ترث من الإدارة السابقة الغطاء الذى قد يبرر لها الكثير من التعقيدات. سفير الولايات المتحدة السابق فى سوريا «روبرت فورد» يعتقد أن «فكرة أن يطيح الأمريكيون ببشار الأسد قد انتهت»، خاصة أن واشنطن تحاول إدارة الأزمة السورية عن طريق المحفزات والتنازلات، لكن ما هو غير واضح بالنسبة للسفير، كما صرَّح به، هو ما سيفعله بشار الأسد تجاه هذه التنازلات، وكيف سيتصرف النظام السورى فيما تسمح له أمريكا بشراء ونقل الطاقة والغاز عبر الحدود. هذا غير بعيد عما تكشَّف مؤخراً من ملامح لصورة الإدارة الأمريكية التى تشابه «أزمة منتصف العمر»، خاصة أنها أمضت السنة الأولى من عمرها فى تقييم أداء الإدارات السابقة فى الملف السورى، والنظر فى الخيارات المطروحة، لتخرج بعدها بسياسة متواضعة، تركز على الاستجابة للحاجات الإنسانية للسوريين ودعم التسوية الأممية، وإعلان رفض دعم التطبيع العربى مع نظام الأسد! من أبرز العلامات التى اتفق العلماء حال التعرض لها والمعاناة منها على بلوغ مرحلة «أزمة منتصف العمر»، هى الاكتئاب الشديد واتخاذ الانطوائية ملاذاً لعلها تساعد فى فهم الذات والسيطرة عليها، يعقب ذلك حالة من الانتقاد المستمر لكل شىء واختلاق المشكلات تحت وطأة التوتر المستمر فى كافة العلاقات مع الآخر. الأهم فى تلك العلامات أن هذه الأعراض تدفع إلى الشعور بواقع وهمى يفتح الباب أمام لوم الذات على أغلب القرارات التى جرى اتخاذها من قبل، مما يجعل قرار ترك جميع المسئوليات وإسنادها للغير ملاذاً حيوياً متخيلاً، لعل بهذه الطريقة يتم تدارك ما بقى من الحياة. هل هناك شىء أكثر وضوحاً من تلك العلامات تعانى منه الإدارة الأمريكية فى تعاطيها مع الملف السورى، وربما مع غيره من الملفات، مما يوحى بأزمة هيكلية قد لا تدركها الإدارة أو لا تريد الاعتراف بها؟! ما يكتبه اليوم خبراء أمريكيون فى وصف سياسة بايدن تجاه سوريا أنها غير منسجمة ومتناقضة، وأن الهوة بين تصريحات إدارة بايدن وسياستها على الأرض تضر بمصداقية أمريكا، وتقوى النظام السورى وروسيا وإيران، وتُفقد الغرب «ما تبقى له» من أوراق ضغط للدفاع عن أبسط حقوق السوريين.
مشاركة :