الأغوار النفسية عند المتنبي الشاعر الرائي السايكولوجي العظيم تميط اللثام عن الأخلاق البشرية قبل أن يباشر تلك المهمة فردريك نيشة وفيودور دستويفسكي يقول المتنبي في ميميته الشهيرة" :والظلمُ من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّةٍ فلعلة لا يظلمُ". وهو بهذا يرجئ سُباتَ بغي الإنسان وشروره إلى ما فرضته عليه تلكم السلطات الحازمة التي ترتدع بها نفسه الموغلة بالقبح والشر، كأن تكون السلطة الدينية أو الاجتماعية أو السلطات الرقابية الأيديولوجية الأخرى، أو هنات العجز التدبيري بعامّته، أو مراغم الركاكة والوهن التي طوّقت جماحه بحظرٍ أجمح من الذي يغتمر في نفسه. وهو بهذا لا يشط كثيرا عمّا ورد ذكره في القرآن الكريم عن هذا الصدد إذ يقول الله تعالى في الآية الثالثة والخمسين من سورة يوسف "إن النفس لأمارة بالسوء إلّا ما رحم ربي" . وبرأيّ أن مَن رحمه الله في هذا الموضع الاختباري لهو الذي حُصّن من لدن الله بأخلاق حقيقية مكنّته على إغلاب نفسه فَزُوِّدَ بأخلاق حقيقية متحررة من جشع النفس البشرية الخبيثة ونفورها ولكنّها نسبيّة غير متاحة للبشر على حدٍّ سواء. يكون المتنبي بهذا قد سبق الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة بتهديم الأخلاق البشرية وإحالتها إلى خرافة بالية مكنونة في جوف أخلاق حيوانية تحتكم إلى سيوف ومقاصل سلطة القوة الغاشمة من قبل أن يحيلها نيتشة في كتابه (جينالوجيا الأخلاق) إلى عملةٍ معدنية ظاهرها النقد الدخير والسيولة المسيطرة الحاكمة وصلبها الجدب البائس والافتقار الشديد. أي إنه قسم الأخلاق إلى قسمين، أخلاق السادة الأقوياء الذي سلّم لهم الحكمُ رقبته وسخّر لخدمتهم كاهلَه وهو هنا يشير إلى رأس الهرم الطبقي المتمثل بأرستقراطي ونبلاء أوروبا الأشداء، وأخلاق العبيد الضعفاء الواهنين ذوي الأصول السامية اليهودية الذين لجأوا إلى المكر والاحتيال فاصطنعوا لسادتهم الأولياء دينا متمثلا بالمسيحية النصرانية مقتبسا من لاهوت يهوديٍّ شرقيٍّ كيما يُرجعهم بعد ان يتفقهوا وصايا الدين المصّنع الجديد بحبكته المحكمة أحبارُه الحائزون إلى أكنافهم مسترحمين. لكن نيتشة هنا أمات (الإله) حتى يتمكن أن يرسي أساس دين مادّي جديد أساسه القوة ومكملاته العود الأبدي واعتلاء ذلك الإنسان إلى هرمية السوبرمان القادم من أرحام المستقبل وقوادم الزمان الآتية . في حين أن الفيلسوف الروائي ومرسي أسس علم النفس السلوكي الذي يدعى فيودودر دستويفسكي لم تثقل به قدماه حتى يتأخّر عن ذينك العَلمين في مضمارهما الطائر في سباقه على هام الأخلاق. إذ يقول دستويفسكي على لسان أحد أبطال روايته "الأخوة كارامازوف" الملحد (إيفان) الذي غرس أفكاره في لُبِّ أخيه من أبيه (سمردياكوف) المأزوم بمرض الصرع "لو لم يكن الله موجودا، لكان كل شيء مباحا حتى الجريمة". فللحظة التي يصل بها قارئ هذه الجملة الملغمة الخطيرة الرادمة لكل حلوق التابوهات الحمراء حتى ترى عقله يتأرجح تفكيرا وتحيّرا وشرودا وذهولا فيما بين وجود الله ووهم وجوده، فيما بين التحرر من القيود الإلهية المفروضة على الأقوياء لكي لا يطغوا وبين خوف الضعفاء المستعبدين (الأغيار) (الجييمات) ممّا يُذهب عن مستعبِديهم بقايا الرحمة المترسبة في الحاجة إليهم بالسخرة وببعض من فتات الخبز والذل.
مشاركة :