قبل عشرة قرون تأسست على المساحة الجغرافية الممتدة من الموصل العراقية إلى حلب السورية دولة أو إمارة إسلامية كان لها صيت وإنجازات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية وعلمية. الامتداد الجغرافي لهذه الدولة، هو نفسه الذي تتحرك فيه الكوميديا السوداء لدولة أو إمارة "داعش" الآن، باعتبار أن التاريخ لا يكرر نفسه. أنشأ الحمدانيون العرب المنحدرون من تغلب التي تنتمي إلى ربيعة دولتهم في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في الموصل، وامتدوا بحدودها إلى حلب، في عصر من عصور ضعف الخلافة العباسية، حيث سادت الفتن وعمت الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، فكانت الإمارة الجديدة قائدة لليقظة الفكرية والسياسية. خرج "الدواعش" في القرن الخامس عشر الهجري (الحادي والعشرين الميلادي) من اللا مكان لينتشروا ما بين الموصل في أرض السواد إلى الرقة وحلب في أرض الشام، في فترة زمنية ساد فيها الاضطراب السياسي والفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية والاقتتال الأهلي في العراق وسوريا. بيد أن الحمدانيين أرسوا دولة بمعنى الكلمة، بينما يعمل "الدواعش" من دون كلل أو ملل على تدمير كل مقومات الدولة، وتحويل العمران إلى خراب، وإزالة كل مظاهر الحياة من بشر وحجر. وصف المؤرخ المسلم الثعالبي الحمدانيين بأنهم كانوا أهل الصباحة والفصاحة والسماحة والرجاحة، ومقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرجال. في المقابل لن يظلم المؤرخ المنصف "الدواعش" إذا وصفهم بأنهم أهل القباحة واللجاجة، وضيق الأفق والسماجة، والغباء السياسي والعدمية، فكراً وسلوكاً. كان الحمدانيون سيفاً للإسلام مصلتاً على الأعداء البيزنطيين الذين انتقصوا أرض الخلافة من أطرافها وارتكبوا المجازر التي لا تحصى بحق المسلمين، وفي المقابل يمثل "الدواعش" سيفاً على رقاب الجميع من سَاكنِة عربية ومُعَاهِدة أجنبية، يخرجون الناس من بيوتهم ويستحلون أموالهم وأعراضهم ويعملون فيهم القتل ذبحاً وحرقاً وصلباً. ورغم الطابع العسكري والنشاط الحربي للدولة الحمدانية في مناجزة البيزنطيين، فقد أولت هذه الدولة عناية فائقة بالجوانب الحضارية والعمرانية فشيدت القصور التي كانت آيات معمارية بجمالها وزخارفها ونقوشها وفخامتها، وعمرت المساجد وبنت الحصون والقلاع. وفي المقابل كان خراب العمران وتدمير البنيات الأساسية الشغل الشاغل "للدواعش" الذين نسفوا البيوت، ودمروا المساجد والكنائس والأديرة، وأضرحة الأنبياء والصالحين، وبنوا تلالاً من الجماجم ورووا الأرض بدماء المذبوحين. إذا كانت الزراعة هي أساس الحضارة في التاريخ، وعلامة استقرار المجتمع فقد ازدهرت الزراعة في الدولة الحمدانية، وأثمرت الأرض الحبوب والفاكهة من كل صنف ولون، مما يؤكل، ومما يصنع، ومما يعصر، ونمت صناعات صهر الحديد والصابون والزجاج والسيوف والغزل والنسيج، وتحولت كبريات مدن الدولة من الموصل وحلب والرقة وحران إلى مراكز تجارية مزدهرة. وصاحب هذا الازدهار والاستقرار نشاط فكري وثقافي وعلمي، وباتت الدولة قبلة للشعراء مثل المتنبئ، والنحويين واللغويين مثل الفارسي وابن خالويه وابن جني، والفلاسفة والأطباء مثل الفارابي وابن سينا وعيسى بن الرقي. في المقابل كان "الدواعش" سبباً في اضطراب حياة المجتمعات المستقرة وبوار الأرض وموت الزروع، وخروج الناس من ديارهم نازحين ولاجئين، تتلقفهم المنافي ومخيمات اللجوء، بينما تحول الامتداد الجغرافي لدولة "الدواعش" المزعومة إلى مغناطيس جذب لشذاذ الآفاق والقتلة المهووسين بجز الأعناق وقطع الرؤوس، والمتطرفين والتكفيريين والظلاميين وأعداء الحياة والعقل. المقارنة بين بني حمدان وبني "داعش" ظالمة، فلا أشباه ولا نظائر، بل أضداد ونقائض. وإن كان الامتداد الجغرافي واحداً، فقد ملأه الأوائل بمحتوى تاريخي راسخ، وصبغه الآخرون بالدم والسواد والعدمية، وهو إرث غير راسخ ستسفوه الرياح ليكون ذكرى سيئة، ومزحة سخيفة سمجة في التاريخ. osnim@hotmail.com
مشاركة :