هو ذاك الصرح الأعظم الشاهد على تاريخ تلك الامبراطورية المحاطة بعالم من الغموض والحكايات والأساطير القديمة، التي وجدتني التقي بها وجهاً لوجه في رحلة استطاعت بجدارة أن تخطف كل ما أمتلك من حواسي، جولة شعرت من خلالها بأنني قد امتطيت آلة الزمن لأعود بها إلى الوراء قروناً أقف ما بين الروايات في دنيا اختلطت فيها الحقيقة بالسراب.. روما التي تستطيع جيداً أن ترى نيرون ممسكاً بناره ليحرقها، فتعود من جديد في أبهى صورها مزدانة بلمسات دافنشي، وأنجلو، ورافائيلو.. صرخات محاربيها تدوي في الفضاء، وزئير حيواناتها المتوحشة المتربصة بأسراها تصم الآذان. هناك على بواباته الضخمة وقفت، وبين مدرجاته مشيت، وعبر مقصوراته الإمبراطورية تجولت، وإلى سيوف محاربيه وصرخات أسراه استمعت، إلى الكولوسيوم أو حلبة المصارعة الرومانية ذهبت لأقف أمام رمز لواحدة من أقوى وأقسى الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، في العاصمة الإيطالية روما. الوقوف أمام بوابات الكولوسيوم أمر ليس سهلاً على الإطلاق، فأنت على بلاط حلبة الموت الرومانية التي قتل فيها ما يقرب من نصف مليون إنسان، هكذا كانت حالتي وهكذا وجدتني متلبسة بإحساس من الرهبة المتبوعة بصمت وتأمل، وربما خوف ورعشة، انتفض معها جسدي، ما إن بدأت أتوغل في قلب الحلبة الرومانية لأرى ما تبقي منها، وهو للحق كثير يقف شامخاً شاهداً على أسطورة القوة والقسوة والمتعة الدامية. وكأنني أراهم أمام عينيَّ، وكأنني أسمع صرخات المهللين، أراهم بأجسادهم النحيلة التي كتب عليها أن تواجه سيوف أصدقائهم رغماً عنهم، أو أنياب تلك الحيوانات المفترسة التي أطلقها رجال الإمبراطور كنوع من أنواع العقاب، ها هم عشرات الآلاف من البشر تجمعوا داخل ملعب دائري ضخم في قلب مدينة روما، وها أنا أسمعهم جيداً وهم يهتفون و يصرخون تفاعلاً مع وقائع المباراة التي تجري أمامهم، رجال و نساء من مختلف الطبقات تباينت ملامح وجوههم ما بين الفرح والحزن والغضب، للوهلة الأولى قد تترجم عينيَّ أنني أتابع مباراة لكرة القدم، لكنها للأسف ليست كذلك، أفيق وأتلفت وأدقق النظر جيداً لأجدني أمام مباراة دموية بين الأسرى بعضهم البعض، أو بينهم وبين الأسود والفهود المتوحشة، وسط صرخات وهتافات الجماهير التي تحض اللاعبين على إزهاق الأرواح البشرية، والعجيب هو ما يصل إلى مسامعي من تلك الأصوات الناعمة الصادرة من حسناوات وأميرات هذا الزمان، اللاتي يستمتعن بتلك المشاهد الدموية. كلارا الشابة الإيطالية التي رافقتني طوال رحلتي إلى روما، اخترقت حالة تأملي لتتحدث بكثير من التفصيل عن تاريخ تلك الحلبة، وأصل تسميتها قائلة: البداية كانت خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وأثناء مدة الحروب البونية بين روما وقرطاج، عندما ظهرت لعبة دموية عشقها الرومان القدماء إلى حد الجنون، كانوا خلالها ينزعون عن أسرى الحرب دروعهم ثم يعطونهم أسلحة بسيطة ويضعونهم في مواجهة مجموعة من الجنود الرومان المدججين بأقوى الدروع، كانت العملية أشبه بالإعدام، إذ إن التسليح غير المتكافئ كان يعني موت الأسرى لا محالة، وبمرور الزمن ابتكر الرومان أساليب دموية جديدة أضافوها إلى اللعبة فأخذوا يجبرون الأسرى على أن يقاتل أحدهم الآخر، في منازلات كانت الهزيمة فيها تعني الموت المحقق، وأحياناً كانوا يضعون الأسرى في مواجهة مع الحيوانات المفترسة لتفتك بهم وتلتهمهم، وهكذا تحولت هذه المبارزات الوحشية إلى اللعبة الأكثر شعبية لدى الجماهير الرومانية القديمة، فأصبح لها قوانينها وطقوسها ومقاتلوها المحترفون، الذين يطلق عليهم Gladiator، وتعني باللاتينية السياف، الذين كان يتم تدريبهم في مدارس خاصة من أجل تهيئتهم للقتال داخل حلبات الموت الرومانية. قاطعت كلارا متسائلة عن سر تسمية الحلبة بهذا الاسم، فأجابتني على الفور: بداية يعود بناء الكولوسيوم، إلى رغبة الإمبراطور فلافيو فسبازيان في محو ذاكرة سلفه الامبراطور نيرون حارق روما من جهة، ومن جهة أخرى، حتى يرمز لعظمة الامبراطورية الرومانية في وقت من أزهى عصورها، لمضاهاة الحضارات والدول الكبرى التي خضعت لسيادة روما. وتدل كلمة الكولوسيوم، التي اقترنت بمسرح فسبازيان عبر أكثر من تسعة عشر قرنًا، على الكتلة هائلة الحجم والبنية، ويعود أصلها إلى تمثال إله الشمس الإغريقي أبوللو، وأراد نيرون المهووس بالعظمة وجبروت روما، أن يتمثل بالإله أبوللو حين أقام لنفسه تمثالاً أطلق عليه الرومان اسم الكولوسيوم على مدخل قصره الأعجوبة دوموس أوريا، الذي يعني الدار المذهبة، والذي أهلكه شعب روما، نقمة على إمبراطورهم نيرون وانتقامًا لفعلته الشهيرة. تركت كلارا، فلم أكن في حاجة لسماع أي من أصوات البشر حولي، فقط وجدتني وقعت فريسة للنظر والتأمل لخطواتي التي وجدتها مسيرة لا مخيرة في شق الطريق إلى الحلبة الرومانية، لقد كانت بيضاوية الشكل بطول 87 متراً و عرض 55 متراً، وذات أرضية خشبية مغطاة بالرمال، هكذا كانت آخر كلمات مرافقتي التي يبدو أنها شعرت بحالتي فآثرت الصمت. ها أنا أقف في الطابق الأول ل الكولوسيوم، أتأمل تلك المجموعة من الأنفاق والدهاليز التي كان المقاتلون ينتظرون داخلها حتى يأتي دورهم للصعود إلى الحلبة، وها أنا أستطيع أن أشم رائحة الحيوانات المفترسة وأسمع أصواتها الجائعة المتربصة بالأجساد الضعيفة. أقف وجهاً لوجه أمام تلك الحلبة المحاطة بجدار بعلو 4.5 متر، يضم عدة بوابات متصلة بالدهاليز والأنفاق الموجودة، التي كانت تستخدم لإدخال المقاتلين والحيوانات، وإلى الأعلى تقع مدرجات الجماهير، التي أكد علماء الآثار أنها كانت تستوعب ما يقرب من ثمانين ألف متفرج، وهو عدد كبير حتى في مقاييس ملاعب اليوم، المدرجات الداخلية للملعب تم تصميمها لاستيعاب المتفرجين حسب الرتبة والمقام، فالجزء الأقرب إلى الحلبة، الذي يتمتع بأفضل مجال للرؤية، كانت فيه مقصورتان رئيسيتان مخصصتان للإمبراطور و حاشيته، والعذراوات من الجميلات والأميرات، وحول المقصورات الإمبراطورية كان يجلس أعضاء مجلس الشيوخ الروماني، أما النبلاء الرومان و الضباط ذوو الرتب العالية، فكانوا يجلسون في حلقة المدرجات التي تلي حلقة الإمبراطور، ثم تأتي بعدها حلقة كبيرة من المدرجات المخصصة للمواطنين الرومان العاديين، وتتكون من قسمين، أحدهما للأغنياء، ويقع إلى الأسفل، والثاني في الأعلى للفقراء، أما الحلقة الأخيرة من المدرجات فكانت تقع في أعلى الملعب، ولا تحتوي على مصاطب للجلوس، لأنها كانت مخصصة للعبيد، الذين كانوا يشاهدون المباريات وقوفا. سادت مدة صمت طويلة بيننا، خاصة عندما قررت أن أخوض غمار تسلق الحلبة للوصول إلى قمتها ومدرجاتها العالية ؛ لا أنكر حالة الانبهار التي أصابتني من طريقة البناء والهندسة المعمارية، التي صممت عليه، ووجدتني أتمتم مع نفسي قائلة: إن ضخامة وفخامة الكولوسيوم، تجعل كل من يراه يتساءل عن الكيفية التي تمكن بواسطتها القدماء من بناء ملعب كهذا يصعب تشييده في عصرنا الحالي؟ ويبدو أن صوتي كان مرتفعاً، إذ فاجأتني كلارا بحديثها قائلة: إنها الخرسانة الرومانية Roman concrete، ورغم أن الخرسانة الرومانية لم تكن تضاهي الخرسانة المسلحة المستعملة اليوم في تشييد المباني، إلا أنها كانت في زمنها اختراعا ثوريا مكن الرومان من بناء الصروح العظيمة كالكولوسيوم، وتمثال الإمبراطور نيرون، الذي كان مجاوراً ل الكولوسيوم، و يبلغ ارتفاعه 38 متراً. إذاً هو القتال بشجاعة والموت بشجاعة، هكذا قلت لمرافقتي التي أيدت عبارتي، واستكملت حديثها قائلة: لأن اللعبة عنيفة ومرهقة، لذلك فإن جولة المبارزة كانت لا تتجاوز العشرين دقيقة في أحسن الأحوال، و كانت تنتهي غالباً بمقتل أحد طرفي النزال، و لكن في حالات نادرة جداً قد يستمر الصراع لفترة أطول، ربما تتجاوز الساعة، و ذلك بسبب تكافؤ القوة والشجاعة، وفي هذه الحالة، فإن الجمهور قد يطلب الإبقاء على حياة المقاتلين تقديراً لشجاعتهما. كان المقاتل الفائز يكافأ بإعطائه سعفة نخيل ترمز إلى النصر، إضافة إلى الهدايا والأموال التي قد يحصل عليها من الإمبراطور والنبلاء، وأحياناً كان المقاتل يخوض عدة منازلات خلال اليوم الواحد، لكن مهما بلغت شجاعة المقاتل و قوته وعدد انتصاراته، فإن الموت ينتظره لا محالة في النهاية. كانت جولتي في الحلبة الرومانية انتهت، عندما وجدتني أغادرها عبر تلك البوابات الخرسانية الضخمة، التي رأيت من خلالها كل التناقضات التي يمكن أن يتصورها عقل، ما بين الجمال والقسوة، والحقيقة والسراب، والقوة والضعف، تناقض لا يتلخص سوى في كلمتين: الحياة أو الموت، أكون أو لا أكون.. تلك هي الفلسفة التي قامت عليها حلبة الدم الرومانية، التي تحولت اليوم إلى أكثر الآثار في مدينة روما الإيطالية، جذباً للسياح من مختلف أرجاء العالم.
مشاركة :