بين الفينة والأخرى يطل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف داعياً وناصحاً الأكراد الذين يقودون “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى الدخول في حوار جاد مع دمشق. آخر إطلالة جدّد فيها لافروف دعوته للأكراد بالشروع في الحوار مع نظام الأسد كانت بتاريخ الرابع عشر من الشهر الجاري خلال مؤتمر صحافي حول نتائج عمل الدبلوماسية الروسية في عام 2021. الدعوة الروسية الجديدة لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من حيث الشكل والمضمون. ومن أبرز النقاط المحورية التي تضمنتها دعوة لافروف الجديدة – القديمة: أولاً، اتهام الأكراد ضمنياً، المتمثلين في حزب الاتحاد الديمقراطي و”قسد”، بتبني ميول انفصالية وفق أجندات أميركية. ثانياً، الإشارة إلى تبعية القوى السياسية والعسكرية الكردية لواشنطن. ثالثاً، التلميح إلى عدم جدية القوى السياسية والعسكرية الكردية في خوض حوار جاد مع نظام الأسد للوصول إلى النتائج المرجوة، حسب التأويل الروسي. وذلك في محاولة لقلب الحقائق وتحميل الجانب الكردي مسؤولية إخفاق الجولات السابقة من المباحثات التي عُقدت خلال العام 2018 برعاية روسية. علماً أن مسؤولية فشل تلك الجولات في خلق أرضية مناسبة للحوار أملا في التوصل إلى تفاهمات بخصوص القضايا العالقة بين الطرفين تقع على عاتق النظام السوري الذي لا يجيد سوى لغة وعقلية القوة وإصدار الأوامر دون إبداء أية مرونة أو إشارة إلى إمكانية التغيّر بعد كل هذه السنوات العجاف. كلام الوزير الروسي يوحي بوجود مبادرة روسية رسمية استراتيجية متكاملة الجوانب والملامح والمعالم بهدف إيجاد حل مناسب للقضية الكردية في سوريا. مع العلم أن الطرح الروسي لا يخرج عن إطار الشكليات والتكتيك الآني الذي يرمي إلى زيادة وتكثيف خلط الأوراق في المعضلة السورية المختلطة أصلا، وإرباك الأطراف المنافسة، واستغلال الارتباك الكردي المتزايد من احتمال قيام أنقرة بشن عدوان جديد. كذلك يُستدل من تصريحات لافروف وجود حوار مسبق متعثر بين الأكراد والنظام السوري وبإشراف روسي، علماً أن كل ما جرى في السابق كان مجرد لقاءات استطلاعية لجس النبض بين الطرفين، ولم ترتق إلى مستوى الحوار بسبب تعنت نظام دمشق والتعامل على أساس المنتصر والأقوى، وعدم تخليه عن عقلية الاستبداد التي أدخلت سوريا إلى نفق شديد الظلمة. ربما الشيء الوحيد الذي يميز دعوة لافروف هذه المرة عن سابقاتها هو تشجيعه للأكراد في سوريا على استلهام تجربة الفيدرالية في كردستان العراق، مما حدا بالبعض للاعتقاد بأن روسيا ربما قد بدأت بتبني مقاربة جديدة أكثر انفتاحا للقضية الكردية في سوريا. لكن ذلك لم يقترن حتى الآن بخطوات عملية وتمهيدية أو بتبني موسكو لموقف الوسيط النزيه أو ممارسة ضغط حقيقي على نظام الأسد لتليين موقفه حيال المطالب الكردية. موسكو ليست بالراعي المحايد والنزيه، وإنما هي منحازة قلباً وقالباً إلى جانب نظام الأسد المدلل روسياً. أيضاً موسكو ليست لديها رؤية متكاملة حول حل القضية الكردية في سوريا الدعوة الروسية القديمة – الجديدة للأكراد بإجراء حوار مع النظام السوري لا تنطلق من مرتكزات مبدئية بهدف إيجاد حل ناجع للمسألة الكردية في سوريا، وذلك على طريق الإنهاء التدريجي للمأساة السورية وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية بين الأطراف المتناحرة. والدليل هو غياب المشروع أو الخطة لترجمة هكذا مسعى إلى حقائق ملموسة على الأرض. الدعوة تنطلق من نظرة براغماتية منفعية آنية محضة في إطار التنافسية مع الدورين الأميركي والتركي في شمال وشرق سوريا والتعكير عليهما. موسكو لا تدعو الأكراد إلى الحوار مع نظام الأسد إلا بعد أن تصعد تركيا من تهديداتها ضدهم، وتجري المناورات والاستعدادات العسكرية على الجانب الآخر من الحدود استعداداً للغزو والاجتياح. لذلك كلما هددت تركيا الأردوغانية بشن هجوم جديد ضد الأكراد في سوريا، قامت روسيا بدعوة حزب الاتحاد الديمقراطي ومجلس سوريا الديمقراطية و”قسد” إلى خوض مباحثات مع نظام الأسد في دمشق تجنباً لكارثة سياسية وإنسانية جديدة. هذا التزامن والتعاقب الدائم بين التهديدات التركية بشن هجوم جديد ضد الأكراد وحث موسكو قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود “الإدارة الذاتية” و”قسد” المدعومة أميركياً بإجراء حوار مع نظام الأسد يعكس الكثير من خبايا وخفايا لعبة الأمم المشيدة على القوة والمصالح والنفوذ، والتي تجري تباعاً على الحلبة السورية الممزقة. بعبارة أخرى، موسكو لا تشجع الأكراد على الحوار مع نظام دمشق وهم بمنأى عن التهديدات التركية، ولكن عندما يكون الأكراد هدفاً للعواصف التركية التي تهددهم بالاقتلاع من الجذور ونسف ما وصلوا إليه من إنجازات منذ 2011 وبأثمان باهظة، بصرف النظر عن طبيعة تلك الإنجازات واللغط المثار حولها. في هذا السياق يوضح الباحث الروسي أنطوان مارداسوف أن موسكو تحاول على الدوام استغلال الارتباك الكردي منذ أن سمحت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتركيا بالهجوم على الأكراد في خريف 2019، ومحاولة إقناعهم بالتوصل إلى اتفاق سريع مع دمشق يسمح بموجبه لنظام الأسد بالسيطرة على مناطق شرق الفرات التابعة للإدارة الذاتية على غرار المصالحات (الاستسلامات) التي رعتها روسيا في المناطق السورية الأخرى، والتي أفضت إلى إعادة سيطرة النظام السوري على تلك المناطق. وبالتالي، فإن روسيا تلمـح للأكراد بأن دعوتها لهم للحوار مع نظام الأسد والقبول بشروطه، حتى وإن كانت مجحفة، هي بمثابة طوق النجاة الوحيد الذي سيصونهم من هول الكارثة التي قد تنجم عن أية عملية تركية جديدة. خاصة وأن الولايات المتحدة، التي تدعم “قسد” في حربها الطويلة والمضنية ضد داعش، لم تبد حتى الآن أي موقف حازم تجاه نيات أنقرة المبيتة بشن اعتداءات جديدة، قد تبدأ من بلدة تل رفعت وتنتهي ببلدة تل تمر مرورا بكوباني وعين عيسى. لا بل سبق لواشنطن أن خذلت حلفاءها الأكراد خلال إدارة الرئيس الجمهوري ترامب، عندما سمحت لأنقرة باحتلال مدينتي رأس العين وتل أبيض في أكتوبر 2019. بدوره رحّب حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بدعوة لافروف، ولكن بتحفظ، موضحاً أن الإدارة الذاتية تتطلع إلى إجراء حوار بنّاء مع دمشق، حيث جرت عدة محاولات في السابق للبدء بهذا الحوار، لكن النظام لم يبد استعداده لذلك. وتمنى الحزب من الوزير الروسي العمل على إقناع النظام في دمشق بالجلوس إلى طاولة الحوار مع ممثلي الإدارة الذاتية. موسكو ليست صادقة في دعوة الأكراد إلى الحوار مع النظام السوري بهدف دراسة وتلبية المطالب الكردية. والدليل أن دعوتها الشكلية كانت ملغومة ومليئة بالاتهامات المبطنة الموجهة للأكراد، إضافة إلى أن موسكو لا تملك رؤية وخطة واضحة للحوار بين الأكراد ونظام الأسد بهدف التوصل إلى تسويات واقعية للمشاكل العالقة بين الطرفين. علاوة على ذلك، موسكو ليست بالراعي المحايد والنزيه، وإنما هي منحازة قلباً وقالباً إلى جانب نظام الأسد المدلل روسياً. أيضاً موسكو ليست لديها رؤية متكاملة حول حل القضية الكردية في سوريا. جُل ما تسعى له روسيا هو محاولة استغلال الورقة الكردية في سوريا وذلك من خلال استغلال القلق الكردي المتنامي بهدف إرغام الأكراد على تقديم تنازلات مؤلمة ومجانية لنظام الأسد وإزعاج المنافسين الآخرين المنخرطين في المأساة السورية، أي الولايات المتحدة وتركيا، خدمة لأجنداتها المشيدة على الهيمنة والتفرد بسوريا من خلال تعويم نظام الأسد وإعادة تأهيله وإفراغ الحل السياسي المأمول من مضمونه الحقيقي.
مشاركة :