حين تغازل أشجار النخيل شجيرات الزهور المتدثرة بألوان الطيف، حين يسود السكون رغم صخب المكان، وتشعر أنك وحدك دون غيرك من تمتلك تلك البقعة من الأرض، رغم أن البشر ممن حولك ينتشرون، فأنت بالتأكيد أمام صرح من الصروح. أين البداية وكيف تكون النهاية؟ سؤال حاصرني منذ أن خطت قدماي خطواتها الأولى على أرضها، إذ كيف لي أن أصف رحلتي عبر جمالها وتفردها وأسطورية أجوائها؟ وكيف أخوض غمار تلك الجولة بعد أن تسرب إليّ إحساس بأنني دخلت متاهةً رائعةً لا أريد الخروج منها. هنالك تضبط نفسك متلبساً، وأنت تتلصص على تلك النغمات الربانية التي تعزفها وشوشة سعف نخيلها، في مغازلة صريحة لنسمات المساء الرقيقة بعد يوم عمل طويل. هناك فقط تقودك قدماك، لتجد نفسك بين أحضان حديقة مشرف التي تقع في ديرة، وتبعد عن وسط مدينة دبي بنحو 15 كيلومتراً، والتي تمتد على 5.25 كم مربع، لتكون من أهم وأكبر الحدائق في مدينة الأحلام. تلك هي دبي، أراها في كل زيارة تتجلى أمامي بمعمارها وناطحات سحابها ومراكزها التجارية وأسواقها وجُزرها وأسطوريتها، وعبقريتها، أتأملها وكأن عيني تقع عليها للمرة الأولى، وفي كل جولة تفاجئك بأنها تخفي مزيداً من الأسرار، وعليك أن تبذل مجهوداً أكثر حتى تكتشفها، وقتها فقط تستمتع في معيتها بالمعرفة وقيمة الجمال. هكذا كانت حديقة مشرف، الاكتشاف الجديد لي في مدينة الأرقام القياسية. هكذا كانت حالتي، وتلك كانت مشاعري منذ اللحظة الأولى التي عبرت فيها قدماي بوابات الحديقة الضخمة، التي تُجبرك على أن تتغنى شعراً مديحاً فيها، من دون أي مجهود. فقط عليك الاستسلام لحالتك وأن تترك نفسك هائماً بين جريد نخيلها، ونسمات هوائها، حائراً وسط تشكيلات مقاهيها، تسأل نفسك مرات عديدة متردداً: كيف الاختيار، وأي مقهى سأكون من نصيبه. من أين أبدأ جولتي وكيف تكون نقطة الانطلاق؟ سؤال طاردني كثيراً منذ أن وطأت قدماي أرضها، فما تراه عيني من مساحات شاسعة متنوعة يعطيني انطباعاً بأنني لن أستطيع أن أتجول بين جنباتها، إلّا بوجود السيارة التي وفرت الكثير من المجهود، لتجعلني أرصد جميع الخدمات الترفيهية التي تقدمها الحديقة لمرتاديها، والتي تتنوع بين ألعاب الأطفال وملاعب كرة القدم ورولر سكيت، وأماكن تأجير الدراجات الهوائية، إضافة إلي الأماكن المخصصة للشواء، التي تعتبر من أهم الأماكن الجاذبة للزوار في حديقة مشرف. أول وأهم وأجمل ما يلفت النظر طوال مدة تجوالك في تلك الحديقة هو التسهيلات التي تقدمها إدارة الحديقة لذوي الإعاقة، إذ صممت الحديقة لخدمة هذه الفئة من المجتمع، واضعين في الاعتبار أن جميع الخدمات والمنشآت والمرافق تقدم تسهيلات متميزة لهم، بدءاً بتوفير مواقف خاصة بهم قرب بوابات دخول الحدائق مروراً بمراعاة انسيابية الممرات حتى توفير دورات مياه مخصصة لهم. من السهل أن تتعرف إلى المجهود الجبار الذي بذلته بلدية دبي من أجل تطوير هذه الحديقة التي تعتبر نموذجاً مشرفاً لعناصر الطبيعة، ولعل ذلك يرجع إلى كثافة الأشجار وانتشارها في تلك المنطقة، قبل إنشاء هذا الصرح المسمى مشرف، حيث كانت المنطقة تعج بأشجار الغاف التي يصل عمرها إلى أكثر من 150 عاماً وارتفاعها الذي يصل إلى 15 متراً، فضلاً عن قربها من مركز المدينة وطبيعة جوها الجاف، ولهذا فإن تلك البقعة كانت تستقطب العديد من هواة الرحلات. ولأن حكومة دبي لا تترك شيئاً إلا وطورته وحدّثته، فنجحت بجدارة في استغلال هذه الإمكانيات الطبيعية وأقامت عليها حديقة أخذت نفس اسم المنطقة، لتمر بالعديد من عمليات التطوير والتحديث، حتى أصبحت على ما هي عليه الآن من عبقرية وأسطورية، إذ تقدم جميع الخدمات الترفيهية بأسعار زهيدة حتى تستطيع الفئات كافة الاستمتاع بالطبيعة الخلابة التي تنتمي إلى البيئة الصحراوية. كانت تجلس مع أسرتها مفترشة الأرض الخضراء وأطفالها يلهون حولها، في منطقة الألعاب المخصصة لهم، بينما راحت صديقتها تجهز بعضاً من الساندويتشات الخفيفة. اقتربت منها وسألتها عن اسمها، وزيارتها، فأجابتني سعيدة مطلق: أنا من سكان تلك المنطقة وأعتبر نفسي من أهل تلك الحديقة التي ترفه عنا وتعتبر متنفساً لأطفالي، ولا أرتبط بيوم العطلة لقضائه فيها، ففي أحيان كثيرة أعود من عملي مبكراً فآخذ أسرتي لنتناول وجبة الغذاء هنا مع أصدقائي، ثم إن أسعارها مميزة ومناسبة للجميع، وفيها نجد كل الخدمات الترفيهية التي تناسب جميع أعمار الأطفال. صديقتها هبة جودة، قاطعت حديث مطلق، بعد أن فرغت من عمل السندوتشات، لتقول: الحقيقة أن حديقة مشرف بالنسبة لنا هي المكان المثالي للترويح عن أنفسنا، واعتبرها رحلة ترفيهية تثقيفية لأطفالي، خصوصاً أنها تتضمن محاكاة لبيوت من مختلف دول العالم. نماذج تجعل الأطفال يسألون ونحن بالطبع نجيب ونتحدث عن ثقافة كل بلد وعاداته، بل وأيضاً نشرحها لهم على خريطة مصغرة، وتشير جودة بيديها إلى مكان البيوت المتناثرة، لكن عيني وقعت مباشرة على نموذج البيت النوبي الذي يلخص فلسفة وحكمة وطريقة الحياة بالنسبة للنوبيين في مصر والسودان، شكل من أشكال التآخي والوحدة والتكامل واحترام ثقافات الآخر لن تجده بالفعل إلّا على أرض مثل أرض الإمارات. تركت الصديقتين لتكملا وقتهما، وانطلقت أعدو لأرى النماذج المتناثرة الكثيرة لبيوت الدول المختلفة، والجميل أنها نماذج لبيوت شعبية تحمل تراث وتاريخ كل بلد، وليست منازل حديثة ترقى إلى الفيلات. فالاختيار يدل بالفعل على اهتمام هذا البلد بكل ما هو أصيل وتراثي، وليس مقتصراً على تاريخه وأرضه فحسب، بل دول العالم جميعها. ها أنا أدخل المنطقة المخصصة لعرض البيوت الشعبية حول العالم، والتي تضمّ نسخاً طبق الأصل عن البيوت الشعبية الألمانية والتايلاندية والصينية واليابانية، وبالطبع توسط الجميع بيوت الشعر القديمة التراثية التي تظل محفورة في تاريخ الإمارات كجزء لا يتجزأ من تاريخ وتراث وأصالة هذا البلد. مريم فنون، التي كانت تستعد لدخول مركز الفروسية لممارسة رياضتها المفضلة، تقول إن أكثر ما يعجبها هو العناصر النباتية التي تشكلها الأشجار في قلب الحديقة. فتلك النوعية من النباتات تضيف لمسات طبيعية للحديقة تساعد في خلق بيئة خضراء رغم اتسامها والتصاقها بالبيئة الصحراوية، ما يجعل من هذا التناغم والتناقض نقطة جذب مميزة. وتضيف: للحق، فإن هذا المكان هو الوحيد الذي أستمتع فيه وأغتسل من ضغوط وإرهاق العمل، خصوصاً أن مركز الفروسية يتيح لنا ممارسة هواياتنا، إضافة إلى تدريب الأطفال، وهذا على ما أظن شيء نادر الحدوث في حديقة تعتبر من المتنزهات العامة في دبي. سوسن عبيدو، استوقفتها لأعرف انطباعاتها عن المكان، فاستطردت في الحديث عن أهم الخدمات الترفيهية التي تتضمنها حديقة مشرف. تقول: أعجبني للغاية حوض السباحة الذي يتيح لأطفالنا ممارسة تدريباتهم والمناطق المظللة الكثيرة التي تجعلنا نجلس في أي وقت من النهار ولا نشعر بحرارة الشمس، ومركز الفروسية، وخدمة ركوب الجمال التي يستمتع بها صغارنا، والمسارات المخصصة للدراجات الهوائية، والجمل هو المناطق المخصصة للشواء والكثيرة والمتناثرة في قلب حديقة مشرف، والحقيقة أن هذه الخدمة تزيد من رواد المكان خصوصاً أيام العطلات. تركت عبيدو، وأطلقت لقدمي العنان تتجول بين أروقة الحديقة. كل شيء تجده في متناول يديك، هذا هو الانطباع الذي يتسرب إليك ما إن تبدأ تخطو خطواتك الأولى عبر المكان، فصحيح أن الشواء متاح، وله أماكنه الخاصة تحت سعف النخيل، إلّا أنك إذا قرصك الجوع ولم تشأ إشعال موقد الشواء، فلن تصاب بالحيرة، ولن تضطر للخروج للشراء من أحد السوبر ماركات البعيدة عن المنطقة، لأنك ببساطة شديدة ستجد العديد من المطاعم، والمقاهي التي تقدم أفخر وأفخم أنواع المأكولات والمشروبات، ومن كل الجنسيات. وعن المطاعم الخاصة بالوجبات الخفيفة والسريعة، التي غالباً يعشقها الصغار، فحدث ولا حرج، فالعشرات من هذه المطاعم تصطدم بها طوال ساعات يومك الذي تقضيه في حديقة مشرف. ساندي كليف، روسية الجنسية والمقيمة بالقرب من الحديقة، تتحدث لي قائلة: كل شيء يوفر للجميع التنزه وبأرخص الأسعار، ويكفي أننا لا ندفع سوى 5 دراهم فقط ثمن تذكرة الدخول، إضافة إلى أننا في أحيان كثيرة نقيم الولائم والعزومات الخاصة بالشواء لأصدقائنا وأقاربنا من دون أن نكلف أنفسنا عناء ومشقة إقامتها في المنازل. والحقيقة أن زيارة حديقة مشرف لا تُنسى خصوصاً مع وجود جميع ألوان ممارسة الرياضة من السباحة والكرة الطائرة، وكرة السلة، و كرة اليد، لذا لا أبالغ حين أقول إنها تجربة مميزة وفريدة من نوعها.
مشاركة :