لا أعتقد أن قدراتنا السياسية والإعلامية قادرة على الإحاطة بالمستجدات السياسية والأمنية الإقليمية والدولية، لأننا في خضم حرب عالمية كبرى تفوق في هولها الحربين العالميتين الكبيرتين، اللتين كانت أوروبا تحديدا مسرحهما، بالإضافة إلى الحرب الدينية المسيحية المسيحية التي انتهت بما عرف "بمعاهدة وستفاليا".. بالإضافة إلى اليابان التي دفعت الثمن غالياً بسبب ضربها ميناء بيرل هاربير، والذي تسبب بدخول أميركا الحرب العالمية الثانية وكانت من نتائجه استخدام القنبلة النووية للمرة الأولى والأخيرة في هيروشيما وناكازاكي. لا نستطيع أن نعرف ماذا حدث في اجتماعات وقمم كلّ من فرنسا وفيينا وأنطاليا، أي التطورات التي أحدثتها العملية الإرهابية في باريس والتي أعادت فرنسا إلى أيام الاحتلال الألماني حيث أعلنت حالة الطوارئ، ومنع التجول في المدينة التي لا تنام على الإطلاق، وأطفئ برج إيفل، وتقاطرت المواقف والمراجعات الأوروبية والعالمية الرافضة لهذا الاعتداء الذي شكّل نهاية لما عرف بالاستقرار الدولي للدول المتقدمة. تزامن الحدث الفرنسي مع الدعوة لانعقاد اجتماع فيينا حول سورية، التي تعتبر الساحة الأساس المولّدة لما حدث في فرنسا، حيث إن التخطيط والتجنيد لهذه العملية حدثا في سورية.. وكان في فيينا كلّ من إيران وروسيا وأميركا التي تساهلت مع الكيماوي السوري وتغاضت عن جريمة حرب كبرى ارتكبها الأسد باستخدامه السلاح الكيماوي الذي قال عنه أوباما إنه خط أحمر.. وعند تجاوزه من قبل الأسد تركت فرنسا وحيدة في مواجهة الجريمة السورية، في حين ذهبت أميركا وروسيا ومعهما إيران إلى استيعاب الجريمة وحماية النظام السوري من العقاب. تزامنت اجتماعات فيينا أيضا مع قمة العشرين في أنطاليا التركية.. والمعروف أن السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي تشارك في قمة مجموعة العشرين، التي هي بمثابة حكومة عالمية للقوى الاقتصادية الأكبر في العالم. وكانت المداولات سرية للغاية، إذ التقى القادة الكبار ثنائياً أكثر من مرة. وجاء البيان الختامي ليتحدث عن موضوع الإرهاب فقط وأثره في النمو الاقتصادي العالمي، أي مدى تأثيره في مصالح الدول الكبرى، مما يعني أنه دخل في المناطق المحظورة التي تهدّد استقرار الكبار. جاءت أحداث فرنسا واجتماعات فيينا وقمة العشرين بعد القمة العربية اللاتينية التي عقدت في الرياض، مما يجعلنا نسأل كيف يمكن فهم كل تلك التجمعات والقمم والأحداث خلال أسبوع واحد. إنه أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، ولا يجب الإفراط بالتحليل والاجتهاد فيه من هنا أو هناك. وعلينا الانتظار حتى يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من خلال المواجهات الكبرى القادمة وماذا سينتج عنها من ضحايا، كبارا وصغارا.. وعلى سبيل المثال كيف يمكن أن نفهم قول بوتين إن القوات الفرنسية في المتوسط هي قوات حليفة، بينما لا تزال فرنسا تعلن أنه لا فرق بين داعش والأسد. ذهب البعض من الإعلام العربي إلى الارتجال في التحليل وصياغة تقارير سريعة وغير دقيقة، واعتبار أن إيران والأسد هما المستفيدان من العملية الإرهابية في باريس. وهذا أمر غير دقيق لأن إيران والأسد كلاهما مولّدان للتطرف والإرهاب، فكيف يمكن أن يكونا مستفيدين؟ وأعتقد أنهما في حال من يحاول أن يقفل ملفاته الشائكة في سورية والعراق واليمن لأنهما فشلا في حماية المكتسبات التي أعطيت لهما مجانا وخصوصا في العراق. سننتظر وقتاً طويلاً لنفهم ما الذي حدث في تلك القمم والاجتماعات والأحداث، لأنّ علم الدبلوماسية يقول إن اللغة وجدت لنخبئ فيها ما نريد قوله، أي أن الدبلوماسيين يكثرون من الكلام لكنهم لا يقولون شيء، وأن النزاع المسلح أوضح بكثير من الدبلوماسية لأنه واضح، وهو أن فلان يريد قتل فلان.. إن السلاح أكثر وضوحا من الكلام الدبلوماسي، وهذا ما يحرج إيران التي كانت تتميز بتمييع الاجتماعات وتحترف التفاوض الدبلوماسي. أمّا الآن فماذا تقول أمام تورطها في النزاعات هنا وهناك بشكل مباشر، وممارستها للعنف بكل أشكاله؟ ربما لن يطول انتظارنا قبل أن نرى كمية التراجع لقوى النزاع التي تديرها إيران في المنطقة وسعيها السريع إلى عقد التسويات على قاعدة بائع الثلج الذي عليه أن يبيع ثلجه قبل الذوبان، خصوصا في سورية ولبنان والعراق واليمن، لأنها ستتحمل تبعات العنف الذي أيقظته في منطقتنا والذي بدأ يتنقل بين منطقة وأخرى داخل إيران على قاعدة طابخ السم آكله.
مشاركة :