بعد خمس وثلاثين عاماً على نشر الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري لكتابة «الهمجية «la barbarie»، قام المترجم السوري جلال بدلة عن دار الساقي اللبنانية بترجمة الكتاب للعربية، مبيناً أن الفيلسوف الفرنسي انطلق من معاينة تميز عصرنا الذي يتفرد بتطور غير مسبوق للعلم من جهة وانحطاط للثقافة من جهة أخرى. لأول مرة في تاريخ البشرية يفترق مسار العلم والثقافة حد تعارضهما في صراع حتى الموت يفضي فيه انتصار الأول إلى اندثار الثانية. ويرجع هنري منشأ هذا الصراع إلى البدايات الأولى للقرن السابع عشر عندما أقصى غاليلي نمط المعرفة القائم على الحساسية واستبدل به المعرفة العقلانية (المعرفة الهندسية الرياضية) أدى استبعاد الكيفيات المحسوسة إلى استبعاد الحساسية وتالياً الذاتية. وبكلمة واحدة الحياة كما نخبرها داخلنا في ظاهريتها التي لا مراء فيها وتجعل منا أحياء. الثقافة هي هذه الحياة إذا تكشف عن نفسها في نموها الذاتي. والهمجية هي همجية العلم الذي يحكم على جميع الأشكال الثقافية الذاتية بالتفاهة، ويحصر قيمة الحقيقة في مجال الموضوعية. ليست الحياة (التي أقصاها غاليلي من مجال العلم) هي الحياة البيولوجية التي يسعى العالم إلى بلوغ جزيئياتها وجسيماتها بمجهرة. بل هي الحياة الفيتومينولوجية، أي النفس إذ تخبر نفسها في حساسيتها الترانسند نتالية، أو أيضا الذاتية « كان وهم غاليلي، ووهم كل من حذا حذوه وعد أن العلم معرفة مطلقة هو على وجه الدقة، أنه أخذ العالم الهندسي والرياضي، والمكرس للتزويد بمعرفة أحادية عن العالم الفعلي، على أنه العالم الفعلي عينه، هذا العالم الذي لا يمكننا حدسه واختباره إلا في الأنماط الملموسة لعيشنا الذاتي». الناشر كتب على الغلاف الخلفي للكتاب نشهد تطوراً غير مسبوق للعلم يترافق مع انهيار دراماتيكي للثقافة للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، يتباعد العلم والثقافة في مواجهة وجودية حتى الموت. انفجار علمي مقابل خراب الإنسان، لا ينادي الكاتب بزوال العلم إنما بزوال الأيديولوجية المرافقة له بعد ما صار العلم همجية منذ اللحظة التي نسي أنه هو نفسه شكل من الثقافة. ويحاول المؤلف عبر تأملات فلسفية أن يعيد الحياة إلى الوثبة الأولى للعلم مبيناً أن الفعل الثقافي المؤسس له هي همجية من نوع جديد تخترق مجتمعنا وتؤدي إلى تدميره، ويتساءل هل يمكن التغلب عليها؟ هل مجتمع بلا ثقافة ممكن؟ ميشيل هنري (1922-2002) فيلسوف وروائي فرنسي مفكر ملتزم ورائد في علم الظواهر وعلم الاجتماع والسياسية والفن، كان أستاذ في جامعة بول فاليري مونبيلييه درس في عدة جامعات فرنسية وأجنبية. فيما يحمل المترجم جلال بدلة دكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة ميشيل دو مونتاني حيث يعمل أستاذاً للفلسفة الغربية في جامعة تشرين وعضواً في رابطة الفرويدي الدولي في فرنسا، وقد راجع وترجم عشرات الكتب والمقالات من بينها التبادل المستحيل «جان بودريار»، الزمان والآخر «إيمانويل ليفيناس»، الهوية والوجود «داريوش شايغان»، الحداثة المتجددة» آلان تورين ، فلسفة العنف «إلزا دورلين»، كيف تقرأ جاك لاكان «سلافوي جيجك».
مشاركة :