"بين المساجد".. كيف يمكن أن يصبح الإسلام بريطانياً؟ يتبنى الكاتب صورة معاصرة للإسلام فهو يؤكد أنه ليس صحيحا تحميل مسؤولية اصطناع العداء للإسلام وتفشي الإسلاموفوبيا على عاتق المسلمين جميعهم. فئة قليلة من مسلمي بريطانيا تنحو إلى التطرف لا أذيع سراً إن قلت إن كتاب “بين المساجد..” قد استفزني بداية من عنوانه، ظاناً أن المؤلف تحت هكذا عنوان (رحلة عبر بريطانيا المسلمة) سيهاجم الإسلام والمسلمين، ولكن ما إن قطعت شوطاً في قراءته؛ حتى تأكدت أنه واحد من الكتب المهمة جداً في عصر أصبحنا فيه بأمسّ الحاجة إلى الأمن والسلام. تناول الدكتور إد حسين بالنقد أهم إشكاليات المسلمين في المجتمع البريطاني، ساعده في ذلك أولاً موقعه غير المتحيز باعتباره “بريطانياً مسلماً” كما يفضل أن يحدد هويته (وليس “مسلماً بريطانياً”)، بالإضافة إلى المنهجية الميدانية ثانياً، والتي تعني التماس الحقائق على الأرض مباشرة ورصد المشكلات في بيئاتها، وجمع المعطيات من مصادرها، حيث طاف عبر رحلته هذه بين أهم المساجد البريطانية، والتقى المسلمين هناك، وفي الأحياء والتجمعات والبلدات ذات الغالبية المسلمة. وتحدث إليهم وحاورهم، وتعرّف عن كثب على أنماط تفكيرهم وآرائهم ومواقفهم، ثم انصرف لتدوين تجربته المباشرة في دراسته المثيرة للجدل “بين المساجد.. رحلة عبر بريطانيا المسلمة”. إد حسين تناول بالنقد أهم إشكاليات المسلمين في المجتمع البريطاني عبر التماس الحقائق من أرض الواقع وجمع المعطيات من مصادرها يؤكد الكتاب أكثر من مرة أن الأفكار الإشكالية التي يركز عليها، والتي أراد بحق أن ينبه للخطر المحتمل منها مستقبلاً، لا تُحمل على جميع مسلمي بريطانيا، بل على فئة قليلة منهم، وهي تحديداً فئة “الإسلاميين” الذين ينظرون إلى “بريطانيتهم” كأمر ثانوي عرضي جداً، لا يرقى لأن يمثل هوية بالنسبة إليهم، ولا يتطلب أيّ سلوك خاص يفرضه الانتماء والتشارك مع الآخرين في هوية وطنية جامعة. ينطلق الكتاب من مشكلة الهوية والانتماء، الى مناقشة الإشكالات الفكرية الأساسية المُكونة لبنية الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في بريطانيا، ليتفحص بطريقة ارتدادية وغير مباشرة، المفاهيم التي تصوغ هذا الوعي، من قبيل المواطنية والدولة الحديثة والمؤسسات والمجتمع المدني والسلم المجتمعي وسلطة القانون العام. وليكشف بعد ذلك عن أبعاد المشكلة ومخاطرها وكيف سيكون عليه مستقبل بريطانيا في حال سارت الأمور في نفس السياق الذي يكشفه كتاب “بين المساجد”؟ لقد ركّز الكتاب على تحليل الكيفيات السلوكية والنفسية لدى فئات قليلة من المسلمين، والمرتبطة بالوعي الديني الرافض لمفهوم الدولة المدينة بعمومها، وليس فقط الدولة البريطانية بعينها، ولكنه في هذه الحالة موجه ضدها، ذلك الوعي الذي ما يزال يتبنى مشروعَ إقامة دولة الله على الأرض، والذي يتحدد بمفهوم “حكم الخلافة” بالنسبة إلى الإسلاميين. ورغم قلة هذه الفئة مقارنة بالغالبية المسلمة، إلا أن أثرها سيكون خطيراً، فأي قليل سيتحول إلى قوة مدمرة للمجتمع ومؤسساته عندما يكون متعصباً، خاصة عندما يبني تعصبه على وهم استئثاره وحده بالحقيقة من تفويض إلهى مطلق، ويكون مستعداً لممارسة الإرهاب باسم الدين، بدءاً من التكفير وانتهاء بالقتل والتفجير. وهذا ما ظهر واضحاً عبر صفحات الكتاب، حيث تطرق المؤلف لذكر بعض أسماء الذين قاموا بعمليات إرهابية داخل بريطانيا أو خارجها، أو الذين انتظموا في كيانات وتنظيمات راديكالية كالقاعدة وداعش، وكلهم مروا في فترة من حياتهم بهذه المساجد، وتأثروا بالمنهج المتشدد الذي كان يُصبّ في عقولهم، ضمن أروقة هذه المساجد، سواء عبر خطب أئمتها والمعلمين فيها، أو عبر المطبوعات والكتب المنتشرة في المساجد وفي المكتبات من حولها، مع الإشارة إلى أن هذه الكتب نفسها ممنوعة من النشر في معظم الدول المسلمة. تنبه الدراسة لخطورة التعارض بين قيم بعض الجماعات المسلمة مع اتجاهات الدولة والمجتمع البريطاني الذي ينبغي أن تكون هذه الجماعات منتمية إليه، وبدا حقيقة أن أفراد هذه الجماعات هم بريطانيون بأجسادهم فقط وبالمكان الذي يجمعهم، لكنهم ليسوا كذلك بالنسبة إلى عقولهم وأفكارهم، هم لا يرون في الآخر البريطاني شريكاً بل عدواً محتملاً ومختلفاً عنهم في الهوية، تلك الهوية التي لا تتحدد برباط الأمة - الدولة، ولا برباط إنساني عام، بل برباط عقائدي ومذهبي محدد في أغلب الأحيان. سيكون من المشروع التساؤل عمّا إذا أصبحت المساجد البريطانية حواضن مساعدة لتفريخ التطرف وبإشراف مباشر من أئمة راديكاليين مناهضين للتوجه الليبرالي سيكون من المشروع التساؤل عمّا إذا أصبحت المساجد البريطانية حواضن مساعدة لتفريخ التطرف وبإشراف مباشر من أئمة راديكاليين مناهضين للتوجه الليبرالي كما يغيب لدى أفراد هذه الجماعات أيّ احترام أو تمثل لمبادئ الليبرالية الإنجليزية، فالسياسة عندهم ليست فضاءً لحرية إرادة المجتمع وحقه الديمقراطي في تقرير مصيره، بل شأن ديني محدد الغاية مسبقاً. والمرأة باعتقادهم ليست سوى موضوع حلال للرغبات والشهوات، لا يحق لها التعلم ولا العمل ولا مغادرة المنزل. أما من الناحية التربوية، فالعلوم المدنية ليست ممنوعة عن النساء فحسب، بل حتى عن اليافعين من الذكور الذين ينبغي أن ينشغلوا بالعلم الديني، ولا يأخذوا من علوم الطبيعة والفلسفة والآداب إلا ما يفرضه النظام التربوي العام للدولة، وبالطبع ليس عن طيب خاطر. وفي ظل انتشار هذه الأفكار التي استعرضها كتاب “بين المساجد” شارحاً واقع هذه الكونتونات الإسلامية المغلقة، سيكون من المشروع التساؤل عمّا إذا أصبحت المساجد البريطانية حواضن مساعدة لتفريخ التطرف وبإشراف مباشر من أئمة راديكاليين مناهضين للتوجه الليبرالي؟ خاصة وأن الكتاب يوضح مقدار الانعزالية التي تعيشها هذه الجماعات، دون أن تربطهم أيّ علاقات اجتماعية أو ثقافية مع الآخرين من أبناء وطنهم، مما يعزز بين الفريقين (الإسلاميين وبقية المجتمع البريطاني) الانقسام الديني والعرقي، ويؤكد وجودهم كمجتمع موازٍ يُثير القلق والريبة، نظراً لممارساتهم واعتقاداتهم الأيديولوجية المتطرفة التي تجري داخل المساجد، والتي ستجعل كل مسلمي بريطانيا في عين العاصفة. ومن جهة منهجية؛ يقدم كتاب “بين المساجد” رؤية جديدة لمشكلة الوجود الإسلامي في الغرب عموماً، وعلى البرّ الإنجليزي خصوصاً. وإذ يتبنى الكاتب صورة معاصرة للإسلام، يتفق فيها مع غالبية المسلمين، فهو يؤكد أنه ليس صحيحاً تحميل مسؤولية اصطناع العداء للإسلام وتفشي الإسلاموفوبيا على عاتق المسلمين جميعهم، بل على فئات قليلة منهم، بينما غالبية المسلمين، سواء كانوا بريطانيين أو مقيمين، لا يجدون حرجاً في التماهي مع الهوية البريطانية والتزام قيمها والاعتزاز بها. ويدعم حسين أيضاً تحميل قدر من المسؤولية للغرب نفسه، ولبريطانيا التي ساعدت ظروف سياسية فيها على تفشي المشكلة، هذه الظروف التي تراوحت بين تطمينات اليسار الإنجليزي بأن أمور المسلمين على ما يرام، وصمت اليمين تفادياً لتهمة التحريض على الإسلاموفوبيا. الكتاب يركّز على تحليل الكيفيات السلوكية والنفسية لدى فئات قليلة من المسلمين، والمرتبطة بالوعي الديني الرافض لمفهوم الدولة المدينة بعمومها وفي عرضه لجملة المناقشات والتحليلات المتعلقة بأحوال المسلمين الاجتماعية والثقافية المعقدة، استطاع المؤلف أن يعيد تركيب القضية من جديد، ليؤكد منتصراً للإسلام في جوهره النقي والمتسامح، أن مشكلة الجماعات المتطرفة في بريطانيا ليست محصورة في اختلاف سلوكها وقيمها عن الدولة والمجتمع فحسب، بل وعن الإسلام أيضاً، وأن الإسلام والمسلمين جزء لا يمكن تجاهله من تاريخ بريطانيا وحاضرها.. وحتى مستقبلها. من جهة ثانية استرجعت عبر قراءة كتاب حسين الأحداث والجدالات التي وقعت بعد خطاب ماكرون في أكتوبر من العام الماضي، والذي انتقد فيه “الإسلام السياسي” وعرض رؤية الدولة الفرنسية لحماية علمانيتها ومحاربة “الانعزالية الإسلامية”، ونذكر جميعاً الاعتراضات الواسعة التي وُجّهت للرئيس ماكرون آنذاك واتهامه بمحاربة الإسلام. ولقد كتبت بالمقابل عدة مقالات حول أزمة الإسلام في الغرب، وأكدت على ضرورة خروج المسلمين من الجمود الفكري، وإلا سيكونون ضحية لليمين المتطرف الذي بدأ يتنامى في عموم أوروبا، وينذر بمخاطر كثيرة، بتنا يومياً نسمع بعض مقدماتها، كأحداث العنف والعنف المضاد بين المسلمين والمتطرفين اليمينيين. واليوم تأتي أهمية كتاب “بين المساجد” باعتباره يحمل تحذيراً مبكراً لمرحلة ما قبل الانفجار الذي يمكن أن يتسبب به “التطرف الاسلامي” في بريطانيا. ليؤكد ضرورة التركيز على الهوية الوطنية وقبول الآخر والانفتاح ونبذ الكراهية والتعصب، لضمان وحدة الهوية البريطانية والتعايش في ظلها. شدني أخيراً تحليل صورة الغلاف التي حملها الكتاب، بعضها شرقي الطابع وبعضها الآخر تقليدي، إضافة إلى أحذية رياضية شبابية من ماركات مشهورة، ورغم ما قد تستفزه هذه الصورة لدى المتدينين، وتثير مشاعرهم بحجة الإساءة للمساجد، فإني أعتقد جازماً أن الكاتب لا يقصد منها ذلك، بل حاول على الأغلب أن يعكس تعقد المعضلة الجدلية التي تناولها في كتابه، كما كان موفقاً في ربط هذه الرمزية بالهوية الإسلامية المتمايزة عن التراث الغربي، حيث المساجد فقط، دوناً عن أيّ أماكن أخرى، يدخلها الناس حفاة بعد أن يخلعوا على أبوابها أحذيتهم، ويودعونها رفوفاً وأماكن خاصة، فتكون معروضة كما بدت في الصورة تماماً. حسن إسميك كاتب ومفكر عربي
مشاركة :