تشكل مجموعة رسائل الاحتجاز/ السجن للكاتب والفيلسوف الفرنسي دوناتيان ألفونس فرنسوا دو ساد الشهير بالماركيز دو ساد رؤية متكاملة لمسيرة حياته الإنسانية والفكرية وحياة المجتمع الفرنسي سواء في طبقاته العليا أو المهمشة والفقيرة. هذه الرسائل التي كتبت على مدار 27 عاما متفرقة قضاها رهن الاحتجاز بين الإقامة الجبرية والحبس في سجن الباستل البشع ووضعه في مستشفى للأمراض العقلية مع المصابين بالجنون والصرع والأمراض العقلية الأخرى التي قد تزيد حدتها أو تقل، رسائل كاشفة ومؤكدة على أن ما واجهه ليس بعيدا عما كان يجري من تطورات الأنظمة التي عاصرها، النظام الملكي، الجمهوري، حكومة القناصل، والإمبراطوري، وانعكاساتها على الحياة الاجتماعية والسياسية، فقد كانت الطبقات العليا والتي من بينها طبقة دو ساد غارقة في الملذات وممارسة الجنس في الوقت الذي تستتر فيه بالكنيسة وفضيلة التدين، وهي الطبقات التي وضعتها الثورة الفرنسية تحت المقصلة. فاسق لا مجرم في الرسائل نكتشف دو ساد الفيلسوف مبرهنا على التفاوت بين طبائع الناس مما يجعل النسبية أساس التعامل معهم الرسائل صدرت أخيرا عن دار الرافدين بترجمة وتقديم المترجم والشاعر لطفي السيد منصور الذي رأى أنها تكشف دو ساد آخر غير الذي عهدناه في أعماله الأدبية أو الفلسفية، دو ساد الأب الساخط على ابنه الأكبر لجفاء هذا الابن، والشاعر بالمسؤولية تجاه أبنائه وتمنيه أن تربيهم جدتهم لأمهم أفضل مما ربي هو، وكذلك الذي لا يساوم على مبادئه من أجل أي شيء حتى لو كانت الحرية وهي أسمى قيمة لديه. نكتشف دو ساد الفيلسوف الذي يبرهن على التفاوت بين طبائع الناس مما يجعل النسبية هي الأساس في التعامل معهم، والغيور على زوجته والتي يطلب منها عندما تأتي لزيارته أن ترتدي لباسا محتشما ولا تأتي مع أحد رجال الشرطة، والذي يحاجج خصومه ويفند الجرائم التي ألصقت به دون إنكار كلي ولكن بالمطالبة بوضع هذه الجرائم في وضعها الحقيقي ومعاقبة الآخرين الذين كانوا طرفا في ذلك، وهو أيضا الباعث للثورة ضد فساد النظام الملكي. إنها مجموعة من الرسائل الثرية على مستويات عدة في فكر وحياة ونفسية دو ساد. يتساءل منصور في مقدمته “كانت طبقة دو ساد غارقة في الملذات وممارسة الجنس، فلماذا عوقب دو ساد على هذا النحو القاسي؟”، ويقول “ربما لأنه لم يكن طفلا عاديا سواء على مستوى الذكاء أو التمرد أو الحرية والتدليل اللذين نعم بهما صغيرا فتأصلا في شخصيته، وربما لأنه أراد أن يذهب في الممارسة الجنسية لأبعد من مجرد اللذة أو المتعة الروتينية لاكتشاف أنواع مختلفة من المتعة واللذة نتيجة مثيرات مختلفة وكذلك إيضاح أن الميول والنوازع الإنسانية هي نتاج الطبيعة ولا دخل للإنسان فيها. ماذا لو التفتت أمه وتأملت تعاركه وهو صغير مع الأمير الذي أرادت أن تقربه منه في القصر؟ أكانت ستعدل من سلوكه وتخفف من حدته مما كان سيجنبه كل هذا الاحتجاز وهذه العذابات؟ ماذا لو كان قد تزوج الأخت الصغرى لزوجته التي مالت له ومال لها وأعلن ذلك لحماته لكنها رفضت تزويج البنت الصغرى قبل الكبرى بل وأسرتها في نفسها لتبدأ رحلة عذابه”. ويضيف “ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة وهو إذا كان الحصول على اللذة بممارسة العنف أطلق عليه السادية، أليست كل هذه السنوات وهذه المعاناة بمثابة سادية؟ هل كانوا يشعرون بالمتعة لسجنه ومضايقته من حماته وكل من تعاون معها في هذا الفعل القاسي؟ ويقول في إحدى الرسائل “‘لقد تخيلت كل شيء يمكن أن تتخيليه في هذا النوع، لكنني بالتأكيد لم أفعل كل شيء تخيلتِه ولن أفعله بالتأكيد أبدا‘. ربما كان خياله الجامح والمتمرد ورغبته في التجريب ومحاولة سبر أغوار النفس الإنسانية السبب في ما أطلق عليه فرويد السادية وهذا الخيال هو ما جعله يقع تحت نير سادية الواقع؟”. ويواصل منصور تساؤلاته “لماذا أنقذ دو ساد عائلة زوجته من المقصلة ولم ينتقم على الأقل من حماته التي أذاقته مر العذاب؟”، مشيرا إلى قول دو ساد “أنا فاسق، لكنني لست مجرما ولا قاتلا، وبما أنني مجبَر على وضع اعتذاري جنبا إلى جنب الدفاع عن نفسي، فسأقول إنه ربما يكون من المحتمل أن أولئك الذين يدينونني ظلما هم مثلي، لم يكونوا قادرين على موازنة عيوبهم بالأعمال الصالحة الجديرة بالثقة كتلك التي يمكنني أن أقابلها بأخطائي”. رسائل يقرأها السجانون كاتب يحول الهزيمة الموضوعية إلى نصر ذاتي كاتب يحول الهزيمة الموضوعية إلى نصر ذاتي في إطار مقدمته ترجم منصور لدراسة تحليلية عن رسائل السجن لدى دو ساد بقلم الكاتب الكندي بينوا ميلانسون الذي أكد أن رسائل الماركيز دو ساد بمثابة نموذج للتفكير في ماهية الرسالة في العصر الكلاسيكي. كفرضية، سوف نفترض أن شعرية الرسائل لها خمسة عناصر: علاقة الغياب، إدارة الوقت، التمثيل الذاتي، نشر الرسائل، الحوارية. في بعض المراسلات الكلاسيكية، يجب أيضا ملاحظة أهمية الشكل الثلاثي. سيساعد التفكير في رسالة السجن الذي ستتم قراءته أدناه في التحقق من هذه الفرضية، لاسيما من حيث التمثيل الذاتي والنشر والشكل الثلاثي. في أصل كل رسالة، يوجد، بشكل ملموس أو رمزي، غياب: أحدهما يكتب لأن الآخر غير موجود. لقد سلط الضوء على درجة الصفر هذه للوضع الرسائلي من خلال كتابة السجن، حيث أن الغياب مفروض عليها. ورأى ميلانسون أن دو ساد في رسائله يقلب الموقف، بإبعاد لغة سجانيه وهي لغة أرثوذكسية “خطيئة الجسد”، “الطريق الصالح”، “طريق الشرف”، “الذرائع الفلسفية”، “الانحرافات الخطيرة”، “انحرافات غير شريفة”. كما أن القراءة والإقناع يسيران جنبا إلى جنب مع دو ساد كاتب الرسائل: القراءة لنفسك، وقراءة الآخرين، وإقناع الآخرين الذين أخطأوا القراءة لأنهم قرأوا بشكل خاطئ. الخطيب هو أيضا متعجرف، والذي يسمى متعجرفا في العصر الكلاسيكي يطلق عليه على الفور أرستقراطي. والأرستقراطي دو ساد لا يتوقف عن القول إنه كذلك. إذا تأملنا في مفتتح رسالته في يوليو 1783 “الملكة المحبوبة، لا يوجد شيء ممتع حقا مثل وقاحة كتبتك. إذا لم يكونوا متأكدين تماما من أن أرقامك عبارة عن ألغاز ‘بالتأكيد بما يتسق مع طريقة تفكيري‘، فسيكون هناك ما يكفي حقا لمنح كتبتك دفعة قوية من ضربات العصا يوما ما. آه! إنهم يؤطرون أيامي الآن! المقلب جيد! الأمر متروك لك، أيتها الأميرة الساحرة، متروك لك لأنك من ستحضرين حفل عشاء مع السيدة جوبي الآن في المستشفى، الأمر متروك لك، كما أقول، لمشاركة أوقات ‘المارتان‘، و‘الألبير‘ و‘الفولوازو‘ وغيرهم من الأوغاد من هذه الأنواع التي ستجدينها جيدة، بينما تبدو لي مثل خيول الكابينة المخصصة للضرب أو لخدمة الجمهور من جميع الأنواع في كل ساعة وكل يوم”. جل مراسلات الكاتب مليئة بأطراف ثالثة سواء كانت مرغوبا فيها أو غير مرغوب فيها، مقدرة أو غير مقدرة وتابع “إلى من يتحدث؟ إلى ‘ملكة جميلة‘، إلى ‘أميرة ساحرة‘. من يهدد؟ ‘الكتيبة‘، ‘الأوغاد‘ الذين لا تساوي قيمتهم أكثر من ‘خيول الكابينة‘. بماذا يهددهم؟ بإعطائهم ‘دفعة قوية من ضربات العصا‘، وضربهم، وإجبارهم على الخدمة في جميع الأوقات. من المتحدث؟ أرستقراطي مشبع برتبته، شخص يدعي مرارا وتكرارا أنه يعتمد فقط على الملك”. إن معرض التمثيلات الذي مررنا به للتو يفترض دائما محادثة ممتدة النطاق. كما يقول فيليب روجر “بالنسبة إلى دو ساد كاتب الرسائل، يمكن للمرسل إليه أن يخفي دائما آخر، مستهدفا أو غير مستهدف، مرغوبا أو غير مرغوب فيه”. لذلك لا يتحدث مع زوجته رينيه بيلاجي دي مونتروي فقط؛ لديه جمهور. هذا الجمهور هو أول وقبل كل شيء سجانوه، أولئك الذين يناشدهم في الرسائل المسماة “إلى زوجته” “السادة المديرون”، و”السادة”، و”المديرون”. وهي أيضا حماته، الرئيسة مونتروي “الآن أوجه كلامي إلى حماتي، العادلة والمنصفة”، لا يزال لديه جمهور غير محدد، سواء كان لا نهائيا، “أنا أؤكد للكون كله”، أو صغيرا لا متناه، “هذه رسالة ليست موجهة إلى أي شخص”. كاتب الرسالة يعرف ذلك ويواصل قوله: قبل مغادرته السجن، إن رسائله يقرأها رجال السلطة؛ بمجرد الخروج من أسواره، ستعيش حياة خاصة بها. ولفت ميلانسون إلى أن كتّاب الرسائل، كما يذكر دو ساد، ليسوا وحدهم أبدا في العالم. يجب عليه أن يشرح ذلك، ولا يعتذر عنه “على الرغم من انحرافاتي الوقحة، فإن الرسالة موجهة إليك دائما” كما يقول لزوجته في أبريل 1780. إن مثل هذا الإعلان عن الرسائل يعد أمرا شائعا في العصر الكلاسيكي: تحتوي تداولية دوائر الرسالة على أسباب لا يعرفها المنطق. هنالك يبرز دو ساد عندما يهاجم بعنف قراءه الأوائل، السجانين، الذين لهم الحق في الحياة أو الموت في ما يتعلق بمراسلاته. إنه يعلم جيدا أنهم قرأوها: لماذا يُطلق عليهم “وحوش ذات قرون” ما الغاية التي يسعى لها عندما يكتب ما يلي “لا يوجد سبب يمنعك من تلقي هذه الرسالة والرد عليها، وبما أنني أمدح أفعال الملك الجيدة، فإن استبعادها سيثبت بوضوح أن أولئك الذين تمر بأيديهم أصدقاء لسارتين أكثر منهم مواطنين صالحين”. أطراف ثالثة Thumbnail رأى ميلانسون التفسيرات النفسية لمثل هذه اللفتة الانتحارية الماسوشية “أكتب لأعاقب”؛ الاستسلام “أكتب وأنا أعلم أنه ليست لدي قوة”؛ النرجسية “لا أحد يستحق أن يراقبني”؛ التعظيم الذاتي الأرستقراطي “لن يجرؤ أحد على فرض الرقابة عليّ”. هناك أيضا معنى رسائلي أكثر ملاءمة لهذه الإيماءة. الرسالة، كما يشير دو ساد، إنها للمجتمع؛ فكاتب الرسالة، بطبيعته، يعيش تحت نظام الحوار المفتوح، لا توجد رسالة شخصانية. مع العلم أنه تحت “عين الوزير اليقظة” أو تحت “عين الحكومة”، ويأسف لأنه لا يكون أبدا “بلا عين”، أي دون مراقبة. سيحاول دو ساد، على الرغم من كل شيء، ولكن للمفارقة، أن يوفر لنفسه مساحة من الحرية الرسائلية. هناك حلان متاحان له: التشفير أو إخفاء المعلومات. في البداية، نستخدم شفرة؛ وبعد ذلك، تخفى رسالة في أخرى، مكتوبة بالحبر غير المرئي، حيث يستخدم عصير الليمون والحليب. نرى هنا مرة أخرى مجتمع قراء السجن “الجلادين” في أماكن متفرقة، “القامعون”، “المختصرون”، “المدققون” الذين ينبغي خداعهم من الآن فصاعدا. رفض دو ساد دوره مرة أخرى، ومع ذلك، في رسائله يعرف أن الطغاة سيقرأونها، يكشف عن الشفرة التي يستخدمها، ووسائل إخفاء المعلومات التي يلجأ إليها. ولا يتعلق الأمر هنا بتناقض شديد بالنسبة إلى الشخص الذي اختار أن يبتكر، تحت النظرات المتبادلة لمتلقي رسائله وسجانيه، شخصيات جديدة بالرسالة، ولكن في ما يتعلق بالشخصيات التي ترفض الامتثال للقواعد التي يجب أن يذعن لها من الآن فصاعدا. دو ساد حاضر في رسائله بشكل كبير كعالم سيميولوجي وبالتالي كمؤول وبلاغي وكمحاور مراوغ وأرستقراطي معتد بنفسه ولاحظ ميلانسون أن دو ساد حاضر بشكل كبير في رسائله كعالم سيميولوجي، وبالتالي كمؤول؛ كبلاغي، وبالتالي كمحاور مراوغ؛ كأرستقراطي، وكحارس على تفوق موروث لا جدال فيه. أيضا مراسلاته مليئة بأطراف ثالثة، سواء مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها، مقدرة أو غير مقدرة. لماذا هذه الأطراف الثالثة؟ لماذا لا يكفي اسم المستلم المحدد في الرسائل؟ في رسائل السجن، يحاول دو ساد الانتقال من حالة سجين ملموسة “ضحية، شهيد” إلى حالة أكثر إيجابية “من قبل تمثيلات الذات التي رأيناها”. يريد تحويل الهزيمة الموضوعية إلى نصر ذاتي وإثبات تفوقه الفكري. للقيام بذلك، يجب أن يفعل ثالثة أشياء. عليه أن يختار شكلا: ستكون الرسالة هي الناقل لهذا البرهان، والأفضل من الرواية، غير المقبولة جذريا لسجانيه؛ الآن تتميز الرسالة بتمثيل الطرف الثالث. يجب أن يرفض السمات المعتادة. على عكس السجين النموذجي، يرفض ساد “بث الثقة في جمهوره” ويلعب بالورقة الأرستقراطية بالكامل؛ النبيل يعرّف نفسه ضد الرتب الدنيا وبالتالي يحتاج إلى أطراف ثالثة. إنه أخيرا يحتاج إلى جمهور، وليس زوجته فقط: ما الفائدة التي سيحصل عليها من حالة لا يملك فيها سوى شخص واحد لإقناعه؟ هذه هي الشروط السادية الثلاثة للتألق في المجتمع الرسائلي. ومع ذلك، يجب أن نكون حريصين على نسيان أن هذا المجتمع يخضع لقاعدة، مفهومة بمعناها الإصلاحي، لن تكون أبدا هي قاعدة الكاتب. دو ساد ليس حرا ولا حرا في كتابة ما يريد “على الأقل إذا كان يريد أن يُقرأ خلف الجدران” هذا ما يمكن أن تعلمه الرسالة من السجن لقارئ الرسالة الخاصة: إذا افترض المرء هويات مختلفة فيها، فذلك للخروج من حالته، والخروج من حالته يتطلب جمهورا، لكن هذا الجهمور هو الذي يحدد الكتابة. قراءة الرسالة. وهذا ما يجعلنا نقول: كل رسالة هي رسالة سجن.
مشاركة :