صدر أخيراً تقرير عن الحالة الدينية في المغرب، هو الأول لـ «مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث»، في سياق التفاعل النظري مع المستجدات الدينية التي طرأت على أنماط التديّن في المجال التداولي المغربي، وهو من إعداد منتصر حمادة وسمير الحمادي. هناك عدد من الأهداف من إصدار هذا التقرير، قد يجمع بينها المساهمة في الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هي أبرز معالم التديّن السائدة في الساحة المغربية اليوم؟ وما هي بالتالي أبرز التوجهات الدينية لمغاربة اليوم؟ هل ثمة متغيرات جليَّة وملموسة بين تديّن المغاربة في الأمس القريب (بُعيد حقبة حصول المغرب على الاستقلال) وبين تديّن اليوم؟ كيف نفهم حركية التديّن في المغرب اليوم بالنظر إلى طبيعة التحولات الاجتماعية والقيمة التي تعرفها الساحة، محلياً وإقليمياً على وجه الخصوص؟ من منطلق أن المجتمع المغربي يقع اليوم تحت ضغط التأثيرات القويّة للعولمة (بسبب الانفتاح على العالم، ثورة وسائل الإعلام والاتصال، حركيّة الأفراد والأفكار...) ما هي أهم آثار هذه التحولات وتجلياتها على تديّن المغاربة؟ كيف تتفاعل الدولة ومعها التيارات الدينية البارزة، مع تدبير والتفاعل مع الشأن الديني للمغاربة؟ ما هي أهم التحديات الميدانية التي تواجه وتتفاعل معها معالم التديّن في الساحة المغربية، سواء تعلَّق الأمر بتحديات عقدية أو مذهبية أو أيديولوجية، محلية أو إقليمية أو عالمية؟ ما هي معالم تفاعل من يهمهم أمر تدبير الشأن الديني (من مؤسسات رسمية وتيارات دينية، سلفية وصوفية...) مع التحديات التي تواجه التديّن المغربي؟ أسئلة، تطلبت الاشتغال الجماعي على تقرير سنوي يروم أن يكون نواة أولية لتقرير استراتيجي خاص بالحالة الدينية يصدر لاحقاً، ومعلوم أن إعداد التقارير الاستراتيجية، يمر عبر محطات أربع: تجميع المعلومات، التحليل، التركيب ثم الاستشراف، ويُفترَض أن يتطرق إلى أهم معالم الخريطة الدينية في الساحة المغربية: مؤسسة إمارة المؤمنين، المؤسسات الدينية، الطرائق الصوفية، التيارات السلفية، الحركات الإسلامية، والاشتغال على ما قد نصطلح عليه بـ «تديّن الهامش» (بخاصة المستجدات المرتبطة بالتشيع والتنصير - التبشير، ومعها الأحمدية - القاديانية والبهائية... إلخ). ارتأى محررو التقرير الاشتغال في شكل قطاعي، عبر تخصيص كل محور لأداء أحد الفاعلين السالفي الذكر، على أمل الانتقال إلى مقام آخر من التناول في النسخ المقبلة من التقرير، مع التأكيد الضروري في هذا السياق أنه تم عرض مُجمل محاور التقرير على لجنة علمية في إطار تنقيحه وتثوير مضامينه. هذه التجربة هي الأولى بالنسبة إلى مُحرّري محاور هذا التقرير، ومعظمهم من الشباب الباحثين في العلوم السياسية وعلم الاجتماع الديني، وبالتالي فمساهماتهم لا تخلو من عثرات كل بداية، مع التنويه إلى أن هذه المساهمات، في هذه المرحلة من البحث، يغلب عليها الطابع الوصفي في المُجمل (مع المقدار اللازم من التحليل)، وهذا راجع أساساً إلى الحرص على تحري أكبر مقدار من الموضوعية والرغبة في تجنب السقوط في شرك الانحياز التعاطفي أو العدائي مع الظاهرة موضوع البحث. وكغيره من دول العالم العربي والإسلامي، شهد المغرب خلال السنوات الماضية تحولات جوهرية في بنية التديّن المحلي («الإسلام المغربي»)، إن على صعيد نمط التديّن العام (التديّن التقليدي الشعبي)، أو على صعيد أنماط التديّن الفرعية (التديّن الأصولي الحركي مثلاً)، هذه التحولات ارتبطت بمجموعة من التفاعلات التي طاولت المحيط العالمي والإقليمي والقطري: 1- في ما يتعلق بتحولات المحيط الإقليمي والعالمي، نستحضر على وجه الخصوص أفول المرجعية الناصرية في مختلف البلدان العربية بعد هزيمة 67، وما ترتَّب على ذلك من صعود المد الإسلامي الحركي [الأصولي] بجناحيه الإخواني والسلفي، «الثورة الشعبية» في إيران في 1979 التي توصف من جانب النظام الإيراني بأنها «ثورة إسلامية»، الغزو العراقي للكويت ثم حرب الخليج الثانية في 1990 مع ما أفرزته من مستجدات جيو سياسية في المنطقة، اعتداءات نيويورك وواشنطن في 2001 وما تلاها من رد الفعل الأميركي («الحرب على الإرهاب»، احتلال العراق في 2003، أحداث «الربيع العربي»، مع مطلع 2011)، وغيرها من الأحداث والتطورات التي ألقت بظلالها على الوعي الجمعي في المجتمعات العربية والإسلامية، بخاصة وعي الشباب الذين، بلغة الأرقام والإحصاءات، يُمثلون الشريحة الكبرى في هذه المجتمعات. 2- في ما يتعلق بتحولات المحيط الوطني أو المحلي، يستحضر التقرير، في شكل أساسي، تبعات عقود من «استيراد» الأدبيات السلفية بإقرار صناع القرار أنفسهم، كمسلسل لاستقطاب وإدماج جزء من التيار الإسلامي الحركي في العمل السياسي، مع بروز الخطاب «السلفي الجهادي» وصدمة اعتداءات الدار البيضاء في 16 أيار (مايو) 2003. تبع ذلك إطلاق مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني، وغيرها من الأحداث. وفي إطار التفاعلات الميدانية مع هذه الأحداث، نعاين الصعود اللافت للحركات الإسلامية (الدعوية والسياسية والجهادية) في مجالات التدافع السياسي والاجتماعي، مقابل الحضور المتواضع للتيارات والأفكار التي تنهل من مرجعية «حداثية»، أو «علمانية»، وبين هذين التيارين، يبرز التباين في أداء الفاعلين الدينيين المنتمين إلى المؤسسات الدينية الرسمية والمحسوبين عليها على السواء. في هذا السياق، جاء التفكير (من باب الضرورة) في تقديم أعمال بحثية ترصد تطورات التديّن المغربي وأنماطه ومجالاته، بخاصة في ظل قلة انتظام ما تجود به المراكز البحثية وعدمه في الخارج من أعمال مهمة في هذا الشأن (تقارير، ببليوغرافيا)، تكاد تكون النافذة الوحيدة التي نطل من خلالها على عالم التديّن العربي - الإسلامي عموماً بمجاهله الواسعة، كما لو أن أقلام الساحة، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، عاجزة عن اقتحام هذا المجال، مع الأخذ في الاعتبار أنه من الإجحاف المقارنة بين العدة المادية واللوجيستية التي يستند إليها العمل البحثي الغربي، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، وهي الأكثر اهتماماً بالموضوع، والعدة التي يستند إليها نظيره العربي (في حال وجوده)، ومع ذلك، فنحن نعتبر أن إصدار تقارير تتناول الشأن الديني العربي - الإسلامي، مُحرَّرة بأقلام باحثين من المنطقة، أفضل بكثير من انتظار تقارير الخارج (تقارير مؤسسة «بيو» PEW مثلاً)، على أهميتها وجودتها العلمية، من باب أن «أهل مكة أدري بشعابها». ظهر في المغرب خلال السنوات الأخيرة عدد من الدراسات والأبحاث السوسيولوجية حول الشأن الديني في مختلف تجلياته الشعبية والحركية، ومعها تقارير سنوية عن أداء المؤسسات الرسمية والتيارات التي تؤثث فضاءات الحقل الديني عموماً، إلا أن المشكلة التي تنال من الجدارة الموضوعية لهذه الأعمال أنها صادرة عن مؤسسات دينية معنية بتدبير الحقل الديني (من قبيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرابطة المحمدية للعلماء، المجلس العلمي الأعلى، دار الحديث الحسنية...)، بالتالي فإن مضمونها يقتصر على تقديم جرد كرونولوجي لأهم مبادرات المؤسسات المعنية، الأمر نفسه ينسحب على التقارير الصادرة عن بعض الحركات الإسلامية الفاعلة، والتي تهدف أساساً إلى التعريف بهذه الحركات والترويج لمشاريعها الفكرانية [الأيديولوجية]، أي أنها شكل من أشكال المنشورات الدعائية. من هنا، جاءت فكرة إصدار تقرير سنوي عن الحالة الدينية في المغرب، كأول إصدارات «مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث»، وهو تقرير يرمي من خلاله المركز المغربي الاشتغال بأقصى ما يمكن من الموضوعية على الحقل الديني وأنماط التديّن في المغرب من أجل فهم وإدراك طبيعتها وأنماطها ومساراتها ومجالات تفاعلها، وكذا أدوار ورهانات الفاعلين الدينيين في مختلف المواقع، وبعبارة أخرى: دراسة واقع التديّن وتحولاته في المجال التداولي المغربي، وذلك من خلال محاور مُخصصة لأداء المؤسسات الدينية الرسمية، الطرق الصوفية، الحركات الإسلامية، التيارات السلفية، «تديّن الهامش»، وغيرها من الموضوعات اللصيقة بطبائع التديّن في المجتمع. وأخيراً، فإن الرابطة المحمدية في المغرب قامت بدور إيجابي كبير في تجديد الخطاب الديني في المغرب واستيعاب النماذح الجدية في هذا البلد وبناء باحثين في الدراسات الإسلامية بصورة تحمل اجتهاداً يعدّ سابقة.
مشاركة :