حلت مؤخراً الذكرى الأولى لوفاة أحد أشهر وأقدم الشعراء الشعبيين في السعودية ودول الخليج، بل أبرزهم في مجال شعر المحاورة أو «شعر القلطة». ففي 13 يناير 2021 فقدت الساحة الشعرية السعودية والخليجية الشاعر مستور العصيمي عن عمر ناهز 92 عاماً من بعد صراع مع المرض. كان ذلك اليوم يوماً حزيناً على محبيه وعشاق شعر القلطة، فتباروا في رثائه والتذكير بمناقبه ودوره في صناعة المتعة. وقبل الحديث عن الشاعر، لا بد من الحديث عن «شعر القلطة» الذي تخصص فيه وكان من ضمن دهاته إلى جانب أسماء عديدة رحلت قبله مثل المسعودي والجبرتي، والثبيتي، والعجي وصياف الحربي والزلامي، وسواط. ونستعين في هذا بما كتبه عبدالعزيز القاضي بصحيفة الجزيرة (21/2/2016)، حيث قال: «القلطة هي الفن الشعري المعروف هذه الأيام باسم (المحاورة) وإلى وقت قريب باسم (المرادّ) بتشديد الدال، وكذلك (الرِديّة) بكسر الراء وتشديد الياء، وهذا المصطلح هو اسمها الأشهر، ويقال إن المحاورة كان يُطلق عليها في الحجاز قديما اسم (المبادعة)». ثم راح الكاتب يفصل فأضاف: «والمحاورة سجال شعري فوري مرتجل يدور بين شاعرين وصفّين من المرددين، وجمهور حاضر في ساحة معدة لها تسمى (الملعبة)، وقد يصاحب الترديد تصفيق وتمايل ورقص.. ويظل الصفان يرددان حتى يوقفهما الشاعر الآخر بإشارة منه لينشد بيته أو الشاعر الأول لإنشاد بيته الثاني لأن أغلب المحاورات تقوم على بيتين بيتين. ومتعة المحاورة لا تكمن في إنشاد الشعر وغنائه وترديده فقط بل تكمن في الحوار المعمى والمعنى المستور الذي يدور بين الشاعرين. وأبرز سمات المحاورة هي: التحدي، والتعمية، والتلميح، وتوظيف الحكمة والمثل». ومما كتبه أيضاً عن مصدر كلمة «قلطة» قوله إنها مأخوذة من قولهم «فلاط قلط على فلان» أي تجرأ عليه وتحداه. كان ميلاد شاعرنا «مستور بن تركي العصيمي العتيبي» في 18 يونيو 1928 بوادي بسل شرق الطائف. ولمن لا يعرف وادي بسل، فهو واد زراعي جاء ذكره في العديد من الكتب القديمة، ويعتبر أحد شرايين الطائف. أما سبب تسميته بهذا الاسم فلبسالة أهله. ومن ناحية أخرى، اشتهر الوادي في التاريخ السعودي بأنه المكان الذي دارت فيه رحى «معركة بسل» في يناير 1815م بين قوات محمد علي باشا وجيش الدولة السعودية الأولى. درس العصيمي في صغره في كتاتيب الطائف، فتعلم القراءة والكتابة، وفي سن الخامسة والعشرين التحق بكتائب المجاهدين التابعة لوزارة الداخلية السعودية، ثم زاول مهناً أخرى. لكنه قبل ذلك وهو في العشرينات من عمره بدأ بقرض الشعر، ولهذا يُوصف بأنه من أقدم شعراء المحاورة في السعودية والخليج. كما يوصف بأنه واحد من فطاحلة هذا اللون الشعري في عصره الذهبي لأنه دخل في مواجهات مع كبار رموز شعر النبط. ولهذا لم يكن غريباً أن يطلق عليه لقبا «أسد شعر المحاورة» و«شاعر قبيلة عتيبة». يقال إن المرء ابن بيئته، وهذا ينطبق على صاحبنا. ذلك أن نشأته في بيئة جنوب الطائف، سهلت تماهيه مع الموروث الشعبي للمنطقة، ومن ثم تشربه لمعاني الشعر وهو في مقتبل العمر، خصوصاً وأنه كان حريصاً على التواجد الدائم في محاورات شعر القلطة في قرى الطائف. وهكذا فما أن اشتد عوده حتى راح يقف بجرأة لينافس الآخرين في ميدان القلطة. ومع تكرار ظهوره في تلك المحاورات الشعرية وتمكنه من تسجيل النقاط لصالحه على حساب المتبارزين معه، راح اسمه يلمع وشعبيته تزداد، فكان ذلك إيذاناً بميلاد شاعر عظيم ظل منافساً وبازاً لمجايليه على مدى سبعة عقود من الزمن. والحقيقة أن عوامل شخصية كثيرة لعبت دوراً في نبوغ العصيمي في هذا اللون من ألوان الشعر، ومنها شجاعته وحضوره الذهني وسرعة بديهته. ولعل ما ساعد على انتشار اسمه وتزايد رقعة معجبيه هو انتقاله من ميادين محاورات القلطة في قرى الطائف إلى الظهور في برامج الشعر الشعبي المذاعة والمتلفزة، ومن ثم مشاركاته العديدة في «مهرجان الجنادرية» السنوي وليالي ملتقى «المغترة»، وهو منبر شعري وقف خلف فكرته الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز، وسجل نجاحات كبيرة بسبب تنظيمه ودقة اختيار المشاركين فيه وابتعاده عن التجاوزات المرفوضة. وبظهور مواقع التواصل الاجتماعي ومنصاته صار اسمه أكثر تداولاً، وخصوصاً عند الفئات الشبابية. نقلت الصحف السعودية عن محمد شاعي العصيمي، الذي كان مشرفاً على حفل تكريم شاعرنا في الطائف سنة 2014 بحضور خمسة آلاف شخص، بعضاً من مناقبه وخصاله فقال إنه كان كريماً وصادقاً ودقيقاً في مواعيده ومحباً للكبير والصغير فبادله الناس الود بالود وأجمعوا على جمال أخلاقه وشعره. وأما تلميذه الشاعر حبيب العازمي فقد وصفه بالعملاق الذي «كان يجيد الفتل والنقض بطريقة عجيبة يدهش بها الحاضرين ويشد انتباههم»، قبل أن يروي قصة عنه تدل على نبله وإنسانيته، وملخصها أن العصيمي كان في اليمن في السبعينات الميلادية فسمع أن سعودياً من قبيلة «يام» مسجون في أحد سجون صنعاء بتهمة كيدية، فبحث عن أحد أقارب السجين ليسمع منه حيثيات الموضوع، ومن ثمّ بادر بنفسه إلى مقابلة السفير السعودي في اليمن آنذاك الأمير مساعد بن أحمد السديري، دون أن تكون بينهما سابق معرفة، ودخل عليه منشداً بيتين من أشعاره، وقائلاً إن وطنيته حتمت عليه القدوم لمطالبة السفارة بالتدخل لصالح المواطن المتهم بتهم كيدية، فاستجاب السفير لطلبه وتدخل لدى الرئيس اليمني آنذاك إبراهيم الحمدي، فتمّ إطلاق سراح المواطن السعودي السجين. ومن دلائل كرمه وإنسانيته ومواقفه النبيلة أيضاً ما رواه ابن شقيقه منصور العصيمي من أن عمه كان يمتلك موقعاً لتربية الأغنام يعمل فيه شخص من الجنسية السودانية، وأنه حينما وجد الأخير ذات يوم مكتئباً وعرف أن سر اكتئابه هو عجزه عن سداد مستحقات مستشفى تتعالج فيه زوجته، قام فوراً بإخراج ثلاثة آلاف ريال من محفظته وأعطاها لعامله كي يزيل الهم عنه. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :