الحياة ليست وردية هكذا كان العنوان الرئيسي للمشهد فى فرنسا بعد تفجيرات الجمعة الحزين، ورغم كأبة المنظر والفجيعة فيما رأيناه من مشاهد مروعة ومحزنة وكئيبة بسبب تلك الأعمال الإرهابية الخسيسة، فإن شعوب العالم تكاتفت ضد قوى الشر لتقرر بعيدا عن الحكومات مشاركة المواطنين الفرنسيين أحزانهم بصورة حضارية، فجاءت رسالة حضارية من هذه الشعوب للتضامن مع الفرنسيين، بإنارة أشهر المعالم في البلدان المختلفة بألوان العلم الفرنسي. وعبّر مئات الآلاف من الأشخاص حول العالم عن تضامنهم مع فرنسا، بشكل متزامن، إذ أضاء مواطنون من عدة دول الشموع تحية لأرواح الضحايا الذين سقطوا فى هذه الهجمات. ربما كانت هذه بداية معبرة لما يجيش في صدور كل مواطنينا حيال هذه النكبات التي نمر بها، فالمشكلة ليست في مجرد تفجير هنا وهناك، وإنما في هول الخسائر التي يتكبد أي وطن يتعرض لمثل هذه الإعمال التي لا يقرها أي دين.. ولهذا فنحن بصدد إجراء تقدير موقف عما جرى وما قد يحدث لاحقاً. لقد وقع المحظور وغاب النور عن عاصمة النور باريس، ربما يجدر بنا القول إن الإجراءات المتبعة عقب واقعة مجلة شارلي إبدو الإرهابية في ضواحي باريس لم توقف تكرار الأعمال الإرهابية الفظيعة، فمهما بلغت الإجراءات الأمنية من قوة وحذر، فهي تفشل أحيانا في رصد الأخطار الخارجية كما شهدنا في باريس، وكيف وضعت الهجمات الأخيرة أجهزة الاستخبارات الفرنسية وغيرها محل انتقادات وجدل واسع، لاسيما مع تكرار تعرض فرنسا للاعتداءات الإرهابية خلال العام الحالي، رغم تأهب الأجهزة الأمنية منذ الهجوم على المجلة الساخرة مطلع العام الحالي. فمن الدروس المستفادة من تفجيرات باريس الأخيرة هي أن حالة تأهب أجهزة الأمن لم تفعل شيئاً لإيقاف منفذي تلك الهجمات عن تنفيذ فعلتهم البشعة بحق مواطنين أبرياء، ومن هنا يمكن القول إن السبب الرئيسي لما حدث يعود الى فشل مخابراتي حقيقي. ولهذا السبب، ربما يتكرر وقوع الكارثة في عواصم أوروبية أخرى. هذا التوقع ليس من بنات أفكارنا وإنما هذا ما تنبأت به أجهزة أمنية واستخبارية دولية، لأنها لا تعرف متي الضربة القادمة وأين وجهتها؟. وما يهمنا هنا هو موقف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند رئيس البلد المنكوبة والمكلومة معا، فأقواله أمام الجمعية الوطنية الفرنسية البرلمان لم ينطوِ على كلام يدعو الى التخاذل أمام مواجهة موجة الإرهاب العاتية التي ضربت بلاده في مقتل، فأعلن التزام فرنسا بـتدمير جماعة داعش الارهابية، هذا بعد إعلانه حالة الحرب والطوارئ في البلاد، ولم ينتقده أي مواطن بأنه سيبدد أصول الدولة المدنية والديمقراطية العريقة في دولة غربية، وإنما ساعده النواب وأقروا ما أعلنه، فبلادهم في حالة أزمة وحرب حقيقية، فما كان من الرئيس ونواب الشعب سوى الاتفاق على خطة سواء لتفادي المزيد من ويلات الإرهاب التي يتوقع ألا تنتهي في الوقت الراهن لأسباب عدة، منها على سبيل المثال رغبة داعش في الرد أو الانتقام لخسائرها في سوريا والعراق وهو ما سنبينه لاحقا. وكذلك محاولة هذا التنظيم الإرهابي فتح جبهات جديدة له في الدول الغربية بعد أن فتحها مع روسيا عبر البواية المصرية حادث الطائرة - وهذا ربما لتخفيف الضغط عليه في مواقعه داخل العراق وسوريا. نعود لأولاند الذي تعهد ليس فقط باحتواء بل بتدمير داعش، عبر آليات عديدة منها التعاون مع روسيا بعد أن رفضت باريس والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التدخل الروسي في الأزمة السورية عسكرياً، ناهيك عن تطوير مستوى الحرب، ليدفع بحاملة الطائرات شارل ديجول لدعم الحملة ضد داعش. وكان من أبلغ كلمات الرئيس الفرنسي هي دعوة مواطنيه الى الصمود والوحدة في حملة بلاده في محاربة هؤلاء الذين لا ينتمون أو يمثلون أي حضارة. الموقف الثاني الذي نود التركيز هو عليه، هو إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعداده التعاون استخباريا وعسكريا مع الغرب للقضاء على الإرهاب الداعشي وغيره الذي ابتليت منه منطقة الشرق الأوسط، ونحن الآن ليس بصدد تحليل كيفية نشأت مثل هذه التنظيمات الإرهابية حيث تناولنا هذا سابقا وقتل بحثا، بيد أن المهم هو كيفية التعاون الحقيقي بين الفرقاء؟.. خاصة وأن الفرق واسع جدا بين مواقف روسيا والغرب ومع أمريكا، فموسكو تدعم بشار الأسد وهو إرهابي أيضا وتحارب له في معركة البقاء في السلطة، فيما يحارب الطرف الأخر الغرب وأمريكا تنظيم داعش نفسه مع مطلبها بتنحي بشار عن المشهد تماما. ولكن يبدو الأمرين بلا جدوى حتى وقتنا الراهن، فرأيناه بشار مواصلا سياسته ورئاسته، وكذلك يتمدد داعش هنا وهنا. فوصل الى الأراضي المصرية عبر سيناء، وليبيا والجزائر وتونس، وفي منطقتنا نلنا نصيبنا منه في السعودية والكويت، ناهيك عن ما نعانيه هنا في البحرين من إرهاب صناعة محلية وإقليمية، وللأسف نشعر بالأسى والوحدة في مواجهة مصائبنا، حيث يكتفي الغرب بالإدانة والشجب فقط دون تقديم أي عون يتطلبه الموقف. موقف الرئيس الروسي لم ينتهِ بعد، فإذا انتقلنا الى قمة العشرين التي استضافتها مدينة انطاليا التركية والتي تتعلق بالتطورات الاقتصادية، نرى أن المشاركين فيها لم يستغلوها لمناقشة الاقتصاد العالمي وهو الهدف من القمة، وإنما أجبرتهم تفجيرات باريس على التركيز على مواجهة الإرهاب خاصة وأنها أعقبت التفجيرات مباشرة.. وهنا فجر الرئيس الروسي قنبلة على الحاضرين حينما كشف أن أربعين دولة في العالم تمول الإرهاب من بينها دول مشاركة في القمة، وقد فاتنا حقا أن يشرح الرئيس الروسي مضامين كلامه ولا يتوقف عن ماضيه الاستخباري ليكتفي بالعناوين فقط، فالمطلوب في مثل هذه المواقف الصعبة، أن تعلم الشعوب قبل القادة حقيقة الموقف ومن هي الدول التي تدعم هؤلاء الإرهابيين ليقتلوا المواطنين الإبرياء هنا وهناك، بغض النظر عن اللون والجنسية والمكان والزمان. كلام بوتين وغيره ينقلنا الى زاوية مهمة ونحن نتحدث عن كيفية مواجهة الإرهاب العالمي، فالولايات المتحدة التي شاركت بقمة العشرين ساهمت بقدر كبير في تأسيس داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، ودولة أخرى تركيا كان لها دور غير محدود في استقبال إرهابيين من كافة أنحاء العالم وسهلت لهم الانضمام الى داعش في المناطق السورية تحديدا، في محاولة لتقوية شوكة المعارضة السورية المدنية والعسكرية والدينية بهدف تقويض سلطة بشار الأسد.. وربما ليس سراً أن نعيد ما نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية في أواخر الشهر الماضي، حيث كشفت أن وسطاء أتراك يستلمون نفط داعش المسروق من العراق وسوريا، ليعاد بيعه في تركيا والأسواق الدولية، المدهش في تقرير الصحيفة البريطانية هو الرقم الذي يتحقق من وراء هذه العملية الخبيثة حيث تقدر المبيعات بخمسين مليون دولار شهريا.. أليس هذا تمويلاً خفياً للإرهاب؟ ثم نعود ونشتكي من ويلاته.. وما يؤكد ما ذكرته الاندبندنت أن بوتين طالب قادة قمة العشرين بضرورة وقف تجارة النفط غير الشرعية التي يمارسها الإرهابيون بعلم سلطات رسمية من بعض الدول، وعرض عليهم معلومات وافية عن معلومات وقنوات تمويل الإرهاب وصوراً للأقمار الاصطناعية عن تجارة النفط التي يمارسها التنظيم الإرهابي. كنا تحدثنا في البداية عن أن داعش يحاول التغطية على خسائره الأخيرة، خاصة بعد تلقي ثلاث ضربات قوية، فالأولى تمثلت في تحرير قوات البيشمركة الكردية مدينة سنجار، والثانية تعرض معقله في الرمادي لهجوم واسع من القوات العراقية، والثالث استهداف غارة جوية أمريكية سفاحه البريطاني المعروف باسم جون السفاح في معقله بالرقة في شمال سوريا. المؤكد هنا أن الغرب وغيره تلاعب بالإرهاب ليرهبنا، ولم يلتفت الى نداءاتنا المتكررة بضرورة التخلي عن سياسته المزدوجة ومشاركة حكوماتنا في مواجهة عالمية ناجزة لهذا الداء القاتل. لقد أخطأت أوروبا والولايات المتحدة في تقدير خطورة الظاهرة الإرهابية، ولم يدركوا حتى وقتنا هذا أنها ظاهرة متلونة ومتحركة. لماذا نقول هذا؟ لأن الإرهابيين يستطيعون توجيه ضرباتهم للكبار أيضا، حيث لا يبالون بالنتائج، فالإرهاب هنا يكرر المثل القائل ينقلب السحر على الساحر أو علمته الرماية فرماني. فلم يعد الإرهاب ظاهرة محلية في بعض البلدان، بل عابرة للحدود والبحار ويتطور كالجرثومة الخبيثة ليضرب أي وجهة يريدها. لكم نادت البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي والحكومات العربية بضرورة تكاتف الجهود الدولية من مواجهة حقيقية للإرهاب الذي يتحدى أقوى أجهزة الاستخبارات والاستحكامات الأمنية في العالم.. ونعيد هنا هذه الدعوة للغرب، فلا حرب حقيقية بدون تعاون جاد بين كل الدول في مجال تبادل المعلومات الخاصة بالتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش. كاتب ومحلل سياسي بحريني
مشاركة :