مع إطلالة هذا العام الميلادي الجديد، الذي يتطلع العالم والبشر فيه واليه بمزيد من الأمل والتطلع والإنجاز في مختلف المستويات، وقد أعدوا له الكثير من الخطط والآمال والتطلعات، لنموهم وتطورهم وتطور مجتمعاتهم ونموها في مختلف الأصعدة والمجالات. يحدونا الأمل في أن نتطلع إلى نظامنا التعليمي بمزيد من الأمل والتفاؤل. لأنه عماد التنمية لجميع المجتمعات المتقدمة وحصان السبق في مختلف المجالات التنموية، به يتطور المجتمع وينمو، ومن خلاله تحدث الطفرات الكبيرة في حياة الإنسان والمجتمعات. وهذا ما اجمع عليه الاولون والآخرون المفكرون والفلاسفة والتربويون، حتى بات ذلك من المسلمات التي لا تحتاج إلى عناء في الإثبات والتأكيد. إذا كان هذا دور التربية وانظمتنا التعليمية في تطور وبناء المجتمعات، فإلى ماذا نتطلع من انظمتنا التعليمية والتربوية مع بداية هذا العام الجديد، لتأخذ مكانها الفاعل في تطوير وبناء مجتمعاتنا العربية في كثير من المجالات. اننا نتطلع من انظمتنا التعليمية الى ما يلي: أولا - تبني الاتجاهات الجديدة: ففي ظل التطورات التعليمية والتربوية الهائلة، التي يشهدها العالم اليوم في مختلف مجالات التربية والتعليم، من تصميم للمناهج الدراسية والنظريات التربوية والاتجاهات الحديثة في مجال التدريس واستراتيجيات التعليم والتعلم، وفي تجدد وتنوع أنماط التقويم التربوي، اننا نتطلع اليوم من انظمتنا التربوية ان تتابع كل ما هو جديد وفعال في هذا المجال فتأخذ به وتتبناه لتحقيق التطور المنشود لأنظمتنا التربوية. فمثلا نحن نعيش اليوم عصر الثورة التكنولوجية الهائلة، التي تتطلب تعاملا مختلفا في بناء واعداد انظمتنا التعلمية، فنظريات الامس التربوية التي نستخدمها في بناء مناهجنا الدراسية قد لا تصلح لمواكبة التغيرات الهائلة التي تحدث اليوم، بل علينا الاستفادة من النظريات النفسية الحديثة التي تناسب هذا العصر عصر الثورة الرقمية الذي نعيشه. والتي منها على سبيل المثال: النظرية المعرفية لتعلم الوسائط المتعددة (2004)، النظرية التوصيلية Connectivism theory (2005)، نظرية التعلم التعاوني عبر الإنترنت (2014)، نظرية التصميم العاطفي للتعلم باستخدام الوسائط الرقمية (2016)، نظرية العبء المعرفي (2019). ومن الاتجاهات الحديثة كذلك توظيف الذكاء الصناعي واستخداماته المتعددة في العملية التعليمية التعلمية، وكذلك من الاتجاهات الحديثة في هذا المجال توظيف واستخدام أدوات وتطبيقات التكنولوجيا الحديثة في التعليم والتعلم مثل: استخدام أسلوب التلعيب، الواقع الافتراضي، الواقع المعزز، الطباعة الثلاثية الابعاد، القصة الرقمية، متصفح ثلاثي الابعاد. هذه امثلة لبعض الاتجاهات الحديثة في مجال التعليم وهناك الكثير من هذه الاتجاهات، التطورات التي حدثت في هذا المجال وهناك اليوم ثورة معرفية هائلة في مجال العلوم التربوية والأنظمة التعليمية من خلال الإصدارات والأبحاث العلمية التي تصدر عن مراكز الأبحاث التربوية والجامعات العريقة والتي تعد بالألوف، بل ربما بأكثر من ذلك سنويا، والتي علينا الاخذ بها ونتبناها وهذا يتطلب وجود مراكز أبحاث ومتخصصين في وزارة التربية في متابعة كل ما هو جديد وفحصه والتدقيق فيه وتحديد مدى الاستفادة منه من خلال متابعة الدراسات والبحوث المنشورة وكذلك اعداد دراسات محلية حول هذه الموضوعات. ثانيا - التأكيد على بناء الهوية الوطنية: تتعرض هويتنا الوطنية اليوم أكثر من أي وقت سابق، للعديد من موجات التشويه والتحريف، من خلال الحملات الإعلامية المفتوحة والانفتاح العالمي والعولمة التي نعيشها اليوم، في مختلف المجالات ولعل آخرها وأبرزها في الفترة الأخيرة الحملات المشبوهة لمحاربة الدين والعقيدة، من خلال الترويج للإلحاد والتسويق له بين أبنائنا. وكذلك نشر موجات الانحلال الأخلاقي، والترويج للمثلية، وإبراز النموذج الغربي للشخصية كأنه هو المثال والقدوة الذي يجب الوصول اليه والاحتذاء به، بل والتشكيك في هوياتنا وأوطاننا، ما حدا بالكثير من شبابنا في مختلف الاوطان العربية للتفكير في الاحتذاء بذلك النموذج، والتفكير بجد للهجرة الى تلك الدول الغربية التي يرونها القدوة والنموذج والأمل. بل ان حملات التشويه التي تتعرض لها هوياتنا الوطنية أكبر وأعمق من ذلك انها تستهدف التشكيك في كل ما يحيط بالهوية وجذورها النفسية، والاجتماعية، والعقدية، والانتماء. ولقد كانت الأنظمة التعليمية والتربوية ومازالت هي السد المنيع امام كل الهجمات الشرسة التي تريد النيل من بناء واعداد شخصيات الأبناء بحسب قيم وعادات ومعتقدات المجتمعات وهي اليوم مطالبة ان تلعب دورا أكبر في التصدي لكل تلك الهجمات التي تهدف إلى النيل من الهوية الوطنية من خلال المناهج الدراسية المتطورة بتجدد احتياجات المجتمع والتطورات العصرية المحيطة بنا، ومن خلال جميع الأنشطة اللاصفية وبالتعاون والتنسيق مع الاسرة والاعلام والمؤسسات المربية في المجتمع لتأخذ دورها في هذا الشأن. ثالثا - توظيف أكثر للتقانة: نتمنى من انظمتنا التربوية الإسراع في تبني الثورة التقنية الهائلة التي نعيشها اليوم، وتوظيفها في منظوماتنا التعليمية، فنحن نعيش اليوم ثورة صناعية رابعة هائلة الابعاد والتأثير، يقول كلاوس شواب - المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في كتابه تقرير المخاطر العالمية، 2017: «نحن نقف على شفا ثورة تكنولوجية كبيرة ستغير بشكل أساسي الطريقة التي نعيش بها ونعمل بها ونربط الأشياء بعضها بعضا. ما نواجهه يختلف في الحجم والنطاق ومستوى التعقيد، سنشهد تحولا على خلاف ما شهدته البشرية من قبل. نحن لا نعرف حتى الآن كيف ستتكشف الأمور في المستقبل، ولكن هناك أمرا واحدا واضحا وهو أنه يجب أن تكون الاستجابة لهذه الثورة الرابعة متكاملة وشاملة، تشمل جميع أصحاب المصلحة في النظام العالمي، من القطاعين العام والخاص بما في ذلك الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني». نعم إنها ثورة هائلة بكل مقايس البشرية لم تمر على البشرية ثورة هائلة مثلها في سرعة التطور والتأثير في حياة المجتمعات والأمم، وهذا يمثل أكبر تحد، ولكنه أعظم فرصة في الوقت نفسه أمام أنظمتنا التعليمية. فإما ان نستسلم لها ونتجاهلها وهذا ما سيوجد حالة من الانفصال بين حياة طلبتنا المستقبلية وواقعهم وبالتالي تعميق وزيادة هوة التراجع والتأخر لمجتمعاتنا او الاستفادة من هذه الفرصة في تبني واستيعاب هذه الثورة في انظمتنا التعليمية لتسريع تبني التنمية وتطوير مجتمعاتنا. ولكي نستفيد من هذه الثورة الصناعية في أنظمتنا التعليمية علينا القيام بثلاث خطوات أساسية في ذلك وهي: التوظيف؛ والإعداد؛ والمساهمة في التطوير. ويمكن الكلام بإيجاز عن كل خطوة من هذه الخطوات: فأولا- الاعداد: والمقصود بالإعداد، هو إعداد الطلبة في التعليم العام وفي التعليم العالي والجامعات تحديدا، لتوظيف واستخدام منتجات الثورة الصناعية الرابعة والتأقلم معها في حياتهم، وفي تعليمهم، ليعيشوا واقعهم، ويتكيفوا مع عصرهم. وهذا يحتم علينا إعادة النظر في مناهجنا الدراسية وفي طريقة اعداد معلمينا وفي مؤسساتنا التعليمية لتستوعب ذلك وتعد الطلبة على أساسه. وثانيا- التوظيف: والمقصود من التوظيف هو الاستفادة من منتجات الثورة الصناعية وتوظيفها في تطوير المؤسسات التعليمية، فهناك العديد من مكونات الثورة الصناعية التي يمكن توظيفها في التعليم مثل تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وغيرها من أدوات الثورة الصناعية الرابعة. وثالثا- التطوير: وهو المساهمة في بناء وتطوير أدوات الثورة الصناعية الرابعة المتعددة والدخول في مجالاتها المختلفة حتى لا نكون مستهلكين فقط لما ينتجه الآخرون وإنما مساهمون في إنتاج المعرفة والتكنولوجيا من أوسع أبوابها من خلال الإمكانيات المادية والبشرية الكبيرة التي تعج بها جامعاتنا في مختلف دول الوطن العربي وخاصة مراكز الأبحاث في الجامعات. رابعا - التعلم الحقيقي: أصبح التعلم الحقيقي هو المطلب الملح لتنمية مجتمعاتنا وتطورها، وليس مظاهر التعلم أو قشوره الخارجية المتمثلة في الاحتفالات الخادعة او المبالغات في بعض الأرقام التي يتم الحصول عليها من خلال بعض المنظمات او المسابقات التي تم الاعداد لها مسبقا وتدريب الطلبة عليها، للافتخار بما حصلت عليه من درجات عالية او ترتيب متقدم بين الدول في تلك المجالات. وفي الحقيقة ما هي الا درجات مزيفة، وتضليل للمجتمع بانها مقياس التقدم والتطور. أو تباهي بعض المجتمعات بتضخم الدرجات ونسب النجاح في الامتحانات التي تعقدها تلك الدول لخريجيها من النظام التعليمي والتي قد تتجاوز 95% وتعتبرها دليلا على كفاءة وفعالية أنظمتها التعليمية. ولقد عبر عن هذه المشكلة تقرير البنك الدولي لعام 2019م حيث أشار الى ان معظم الدول العربية تعاني من (فقر التعليم) ويقصد بهذا المصطلح أن نسبة كبيرة من الأطفال دون العاشرة لا تستطيع قراءة نص صغير مناسب لهم وفهمه، مما يؤدي إلى قصور في تعلمهم وإعاقة تقدم بلدانهم في مجال تكوين رأس المال البشري وعلى الرغم من التحاق غالبية الأطفال بالمدارس، إلا أن نسبة كبيرة منهم لا تكتسب المهارات الأساسية. فهناك 59% من الأطفال ممن هم في سن العاشرة لا يستطيعون قراءة وفهم نص مناسب لأعمارهم. وبالذات بين الذكور حيث بلغت نسبة فقر التعليم بينهم في منطقتانا العربية 62%. ما نتمناه ونتطلع اليه من انظمتنا التعليمية، هو واقع ملموس لمساهمة التعليم في التنمية المجتمعية الحقيقية. من خلال تخريج افراد يمتلكون المهارات الأساسية العقلية والأكاديمية واليدوية، مستعينين بأدوات العصر وتقنياته والتطورات التي تحدث في مجال التربية والتعليم مع تأكيد هويتهم الوطنية، ليسهموا مساهمة فاعلة في مواقع النقص وسد الثغرات التي تحتاج إليها مجتمعاتنا، في مختلف الميادين للنهوض والتقدم، وبالتالي إحداث التنمية الشاملة في مجتمعاتنا. هذه بعض الأمنيات التي نتمناها في أنظمتنا التعليمية لتنطلق في مجال التنمية المجتمعية وتؤدي التطور المطلوب منها في هذا المجال. khalidbq@gmail.com
مشاركة :