كان الأستاذ هشام ناظر.. الذي واريناه الثرى بدموعنا قبل أيدينا بمقابر (أمنا حواء).. بعد عصر يوم الأربعاء الماضي: (نجماً) منذ البداية.. بين شبيبة حارة الشام بـ(هيئته) الوسيمة، وتفوقه الدراسي، وأدائه الكروي.. بين أنداده وزملائه ممن كانوا يشاطرونه لعب (كرة القدم).. ..من أمثال نديده الأستاذ (عبدالرؤوف أبو زنادة) -يحفظه الله- وزميليه الأصغر سناً: (علي العتيبي وحسن باناجه) -يرحمهما الله- في (برحة العتيبي).. ومنذ أن رأيته لأول مرة من نافذة بيت خالتي -وأنا بين التاسعة والعاشرة من العمر-، ثم باعدت بينه وبين جدة كلها وأهلها.. سبل التعليم والتحصيل والدراسة.. حيث ذهب إلى (كلية فيكتوريا) في الإسكندرية لاستكمال دراسته الإعدادية فالثانوية.. كما كان يفعل علية القوم آنذاك -وكما علمت فيما بعد-، ومنها إلى جامعة (كاليفورنيا) في لوس أنجلوس.. بالولايات المتحدة الأمريكية.. لاستكمال دراسته الجامعية.. التي لم يعد منها إلا بعد حصوله على درجتي البكالوريوس والماجستير في الإدارة والاقتصاد والعلوم السياسية.. بينما أخذت أستكمل دراستي -عندما جاء وقتها- لـ(الإعدادية) فـ(الثانوية) بالمدارس السعودية.. فـ(القصور) السبعة -حيث التوجيهية- ومنها إلى جامعة الإسكندرية، فلم أره.. ولم أسمع عنه خلال تلك السنوات على طولها.. إلى أن رأيته على صفحات مجلة الرائد: كاتباً سياسياً مرموقاً.. من طراز أولئك الكتاب السياسيين المصريين الذين كنت أقرأ لهم وأعجب بهم خلال سنوات (البعثة).. إلا أنه انقطع عن الاستمرار في الكتابة السياسية سواء في (الرائد) التي توقفت مع قيام المؤسسات الصحفية وفي غيرها من صحف المنطقة الغربية أو صحف العاصمة التي استقر بها طوال سنوات (استوزاره).. بعد أن استغرقته المناصب الإدارية العليا، التي كانت تسعى إليه.. الواحدة بعد الأخرى نتيجة كفاءته وقدراته وملكاته المتميزة.. ليصبح أحد وزراء الجيل الذهبي من أمثال: (التوفيق) و(المنقور) و(الدباغ) و(آل الشيخ) و(الجمجوم) و(الحجيلان) و(اليماني) و(السلوم)..! * * * لقد حافظ الأستاذ هشام على نجوميته.. التي كانت وكأنه ولد بها، لتسطع مع رئاسته لـ(الهيئة المركزية للتخطيط) -التي قدمت أول خطة للتنمية عام 1970م- عبر جولاته التي قام بها في ربوع الوطن.. وبين جامعاته ومعاهده وكلياته ومدارسه وغرفه التجارية والصناعية: شارحاً وموضحاً ومفسراً ما غُلق منها.. إلا أنه ومع الشهور الأولى من تطبيقها، أخذت تظهر أصوات معارضة لـ(قصر) فترة إنفاذها أمام طول وكثرة محتوياتها.. وأنه كان الأجدى لو أنه تمت برمجتها على عشر سنوات بدلاً من خمس.. إلا أن منطق الأستاذ هشام الوطني الناصع.. كان قادراً على إسكات تلك المعارضات وامتصاصها.. والفوز بتأييدها في النهاية.. عندما قال ما معناه: إن (الوطن).. كان جائعاً لـ(بناء) المدارس والطرق والمستشفيات وشبكات الهاتف والموانئ والمطارات، وأنه لم يكن ليحتمل الانتظار لعشر سنوات أخرى! إلا أن منطقه الرائع هذا.. لم يستطع أن يكسب به أصوات منتقدي (الخطة الخمسية) الأولى لخلوها من الإشارة إلى إقامة وزارة لـ(الثقافة) تعنى ببناء وجدان الأمة ومواطنيها من خلال دعمها لـ(الكتاب) والمسرح والسينما والموسيقى وبقية الفنون.. عندما قال: إن (الثقافة).. لا تصنعها الحكومات، ولكن يصنعها المثقفون من الكتاب والأدباء والشعراء والمسرحيين والفنانين عموماً، وهو منطق (غربي) حق.. حاكى فيه الأستاذ هشام رؤية الحكومات الغربية، التي لا يوجد في معظمها وزارات لـ(الثقافة).. ولا وزارات لـ(الإعلام)، حيث تحل محلها مكاتب لـ(الاستعلامات).. تقوم بدورها في إيصال ونشر المعلومات عن ذلك الوطن، والرد على استفسارات الآخرين.. واستزارة الكتاب والإعلاميين والصحفيين.. لتوثيق العلاقات معهم، وليروا بأعينهم واقع ما يجري في تلك الأوطان، ليصبح بعدها وزيراً للتخطيط.. يتولى الإشراف على إعداد خطط التنمية الخمسية التي تتابعت.. وإلى أن أصبح (نائباً) لرئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع.. فـ(وزيراً للبترول والثروة المعدنية) إلى جانب وظيفتيه السابقتين.. ليقيم له الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ وزير الزراعة والمياه السابق والمقيم في جدة.. حفل غداء على شرفه بعد أول زيارة قام بها لفرع وزارة البترول والثروة المعدنية في جدة، حيث تحدث الأستاذ هشام -في ختام الغداء- عما فوجئ به في أقسام الفرع.. من كثرة أعداد خريجي الآداب -من أقسام علم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ واللغة العربية- الذين يعملون في الفرع!! ولا علاقة لهم بـ(البترول) ولا بـ(الثروة المعدنية) لا من قريب.. ولا من بعيد، فكان أن اقترح عليه بعض الحاضرين بنلهم إلى الأقسام الإدارية وشؤون الموظفين والمستودعات بالفرع مثلاً.. أو إلى أي وزارات أخرى في جدة أو خارجها، فضحك.. وهو يقول: هذا هو المستحيل.. بعينه، فهم يرفضون الذهاب حتى إلى رابغ..!! لتأتيني المصادفة بعد أيام.. مع شاب من الأقرباء، قدم إليَّ ليخبرني -بتخرجه من كلية العلوم- قسم الجيولوجيا.. وأنه يبحث عن وظيفة في تخصصه، ولا يهمه أن تكون في جدة أو في أي منطقة أخرى من مناطق المملكة.. لأرسله -سعيداً- بخطاب لمعالي الأستاذ هشام -كافح حتى أوصله إلى مكتبه - قائلاً له (هذا خريج علوم- قسم جيولوجيا.. لا آداب ولا جغرافيا ولا تاريخ، ولا يهمه أن يجد فرصته الوظيفية في جدة أو في غيرها)، ومع ذلك لم يتم تعيينه.. فقد تمترس الموظفون السابقون.. ضده!! لينتهي به الحال إلى وظيفة مدرس (علوم) بإحدى الثانويات!! * * * لقد أصبح الأستاذ هشام بدأبه وجهده وتكريسه لكل طاقاته في خدمة الدولة والوطن.. عبر تلك العقود من السنين.. من ستينات القرن الماضي إلى منتصف تسعيناته.. موضع ثقتها المطلقة من جانب ورضا الناس من الجانب الآخر، وتلك هي المعادلة الصعبة التي لم يفز بتحقيقها.. إلا قلة من الوزراء!!إذ إنه وبعد عشر سنوات من تقاعده.. تم استدعاؤه في عام 2005م ليتولى منصب سفير المملكة العربية السعودية في جمهورية مصر العربية، ليذهب إلى (القاهرة).. وليكون الصورة المشرقة والمشرفة لوطنه.. طوال سنواته الخمس الأولى وإلى أن هبت عاصفة الخامس والعشرين من يناير من عام 2011م. لكن.. وقبل ترشيحه لسفارة (القاهرة)، كنت أتحدث إليه بعد اجتماع مصغر -شاركت فيه- لعدد من أعضاء مجلس إدارة نادي الاتحاد للبحث عن رئيس جديد لـ(هيئة أعضاء الشرف الاتحادية).. وعن مدى قبوله لـ(رئاستها)..؟ فكان أن اعتذر.. وهو يقول بطريقته الاسترضائية التي أعرفها: (يا عبدالله.. أنا كبرت. وهذا المجلس.. يحتاج إلى جهد وحضور).. فقاطعته قائلاً: ليس مطلوباً حضورك.. فأعضاء المجلس هم الذين سيأتون إليك مرة أو مرتين في العام للتشاور وعرض ميزانياتهم والاستماع إلى آرائك و(توجيهاتك)..؟ فلم يجد مفراً.. ليقول (سأرشح لك شخصاً مناسباً)! وسمَّى لي اسماً محترماً فعلاً.. وقادراً على كل الأوجه، إلا أن ذلك لم يتم.. فقد جاء الترشيح والسفر إلى القاهرة، وجدَّت ظروف أخذت مرشحه الجدير إلى مواقع أخرى.. بعيدة عن نادي الاتحاد!! * * * أما على الجانب الاجتماعي والإنساني.. فقد كان أميز ما يميز الأستاذ هشام ناظر.. هو: ذلك الحب الصادق والواعي لـ(الوطن)، وذلك الحب الجارف لـ(جدة) ومفردات حياتها.. التي عاشها فيها وهي داخل السور.. وهي خارجه، وذلك المزيج الرائع من المعاصرة والتراث في قوامه الفكري.. وبنيته الوجدانية، يضاف إلى ذلك أريحيته في الحوار: مستمعاً ومجادلاً.. إلى جانب روح (النكتة) التي كان يتحلى بها.. حتى ولو استهدفته، وكما حدث في ذلك اليوم عندما اجتمع رؤساء تحرير الصحف والمجلات على غداء في منزل الدكتور فهد العرابي الحارثي رئيس تحرير مجلة اليمامة آنذاك.. للاستماع إلى شروحات عدد من الوزراء عن ميزانية ذلك العام.. كان من بينهم الأستاذ هشام الذي آثر البقاء على الغداء.. بينما انصرف بقية الوزراء بعد أن أدلوا بما لديهم عن الميزانية، ليقول لجمع الصحفيين وقد التفوا حول مائدة الطعام مداعباً: الآن يمكنكم بعد الغداء.. أن تعودوا إلى مدنكم.. فقد علمتم كل شيء عن الميزانية وأرقامها، ولم يعد لديكم سبب للبقاء.. حتى انعقاد جلسة مجلس الوزراء في المساء.. لتحضروا لحظة الإعلان عنها؟ فرد عليه أحد الزملاء: حتى لا نسألكم الأسئلة التي تعرفونها.. وتجيبوننا الإجابة التي نعرفها!! لينفجر الحاضرون بالضحك.. وفي مقدمتهم الأستاذ هشام ناظر نفسه، الذي استقبل (غمزة) الزميل.. بتلك الروح الرياضية السمحة التي عاش بها الأستاذ هشام ناظر (شاباً) طوال عمره.. ومات بها (شاباً) في الثمانين من عمره.. واقفاً على قدميه! رحم الله أبا لؤي. مقالات أخرى للكاتب وداعاً.. (عبد الله حبابي) دبلوماسيُ الكلمةِ والنغم..! (الجلبي).. يرحل إلى مزبلة التاريخ..! معرض جدة الدولي للكتاب.. الذي نريد؟! دعوة أممية «مشبوهة» لـ«محادثات» يمنية «باطلة»؟ (أمريكا) وليست إسرائيل.. هي التي تمنع قيام الدولة الفلسطينية!
مشاركة :