مثلما تحلّق التكنولوجيا نحو الفضاء لاستكشافه وتحقيق إنجازات رائدة عربيا وعالميا، يتحرّك الفن التشكيلي في فلك الريادة الإماراتية في العديد من المجالات، ليعرّف بتجارب في الفن المعاصر تجمع بين فنانين من الشرق الأوسط والعالم وآخرين محليين، جمعتهم أرض الإمارات فكان لها حضور وتأثير كبيران في تشكيل هويتهم الفنية. في سابقة فنية تسلّط الضوء على الحركة التشكيلية في الإمارات العربية المتحدة ينتظم إلى غاية الحادي والثلاثين من مارس القادم معرض “ما بين السماء والأرض: فن معاصر من الإمارات”، وهو ثمرة تعاون بين مؤسستين فنيتين تتشاركان الأهداف والرؤى، هما رواق الفن في جامعة نيويورك أبوظبي وغاليري معهد الشرق الأوسط للفنون بالعاصمة الأميركية واشنطن. ويعدّ المعرض -الذي افتتح منذ الثالث من ديسمبر الماضي بالتزامن مع الاحتفال باليوبيل الذهبي لدولة الإمارات العربية المتحدة- منصة متميزة لعرض أعمال فنانين ملهمين من الشرق الأوسط والعالم. نظام متنوّع حسب ما ورد في الموقع الخاص بهذا الحدث الفني، فإن المعرض يجمع 12 فنانًا يعكسون النظام “البيئي” المتنوع والثري للفن المعاصر في الإمارات، انطلاقا من هويتهم النابعة من جذورهم في الخليج والمشرق العربي وجنوب شرق آسيا والولايات المتحدة. ويعقد هذا المعرض برعاية منيرة الصايغ، وهي قيّمة فنية مستقلة تقيم في الإمارات، وحاصلة على درجة البكالوريوس في تاريخ الفن والآثار من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وتقول الصايغ في كلمتها لتقديم المعرض إنّ الفنانين المشاركين في هذا الحدث الفني الكبير “هم بالفعل عينة من المجتمع الإماراتي متعدد الأوجه، فهم من الممارسين الذين يساهمون في الإنتاج الثقافي الديناميكي لدولة الإمارات العربية المتحدة لكنهم أيضا جزء من المجتمع الذي يشترك في الفضاء بين السماء والأرض”. ويتحدى الفنانون -الذين يطلق عليهم جميعًا الآن اسم وطن الإمارات العربية المتحدة- الروايات القياسية حول الإمارات من خلال حوار بين الأجيال لاستكشاف الاختلافات الاجتماعية والثقافية والطبيعية. ويتيح الموقع فرصة للقيام بزيارة افتراضية إلى المعرض والتعرف على الأعمال التشكيلية المعروضة والمرفقة بشرح تفصيلي لإثني عشر فنانا تشكيليا هم: ابتسام عبدالعزيز، عفراء الظاهري، طارق الغصين، هاشل اللمكي، شيخة المزروع، أسماء بالحمر، علاء إدريس، لمياء قرقاش، محمد أحمد إبراهيم، محمد كاظم، سوليمار ميللر، أوغسطين باريديس. وتقول الصايغ إن “الأعمال المعروضة تدور في فلك مواضيع معاصرة ولم يتم التطرق إليها سابقا بمثل هذه الكيفية والكميّة، وهي مواضيع حارقة وآنية في عالم سريع التغيّر والتحضر، وفيها يعيد الفنانون التعبير عن مشكلات مثل البيئة والنزعة الاستهلاكية وتأثير التحضر السريع، كما يستكشفون موضوعات مثل الدوام والوقت والذاكرة التي صارت الشغل الشاغل لأغلب المجتمعات”. من أبرز اللوحات المعروضة لوحة للفنانة ابتسام عبدالعزيز بعنوان “الوهم البؤري”، وتعتبر هذه اللوحة عملا تشكيليا مختلفا عن أعمال الفنانة السابقة التي كانت في أغلبها ثلاثية الأبعاد. وابتسام عبدالعزيز هي فنانة متعددة التخصصات، توظف الخوارزميات كأساس لفنها، وتعكس أعمالها علاقتها بدراستها فهي حاصلة على درجة الباكالوريوس في العلوم والرياضيات. وتقول عبدالعزيز عن هذه اللوحة إنها استخدمت الهندسة الإسلامية من خلال الطبقات المتعددة بهدف التلاعب بإدراك المشاهد للعمق وبمفهوم النور والظلام المرئي وغير المرئي. وهي تهدف من خلال هذا العمل إلى دعوة الجمهور إلى التعامل مع المادة الفنية بطريقة مختلفة عن المعتاد، عبر المزج بين الاقتراب منها والابتعاد عنها ومحاولة اكتشافها من كل جانب. وبهذا يتيح العمل تقديم وجهات نظر بديلة بصرياً ومفهومياً. نماذج لفنانين مجددين اكتشاف لظاهرة البنيان الضخم اكتشاف لظاهرة البنيان الضخم وتشارك عفراء الظاهري -وهي فنانة مجددة تعمل على مجموعة من الوسائط منها النحت والتصوير والرسم والتركيب والطباعة والتصوير الضوئي- بمنحوتة “مدرسة الدماغ” المصنوعة من حبل قطني وراتنغ، وتستخدم الظاهري -كما هو الحال في أغلب أعمالها في فنّ النحت- التكرار كوسيلةً لإطالة الوقت وأداةً لاختبار أو إنجاز مرحلة ما من مراحل عملها. وتتجذر أعمال هذه الفنانة ضمن التجارب التي عاشتها في الإمارات، البلد الذي تعتبره سريع التغيّر والتطور، وبناء على ذلك اختارت التعبير عن أفكار مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتغيير كفكرة الوقت والتأقلم والصلابة والهشاشة. أما طارق الغصين -وهو فنان كويتي من خريجي جامعة نيويورك أبوظبي- فيشارك في هذا المعرض بصور فوتوغرافية عن مبان مهجورة أو هي في طور البناء والتشييد في صحراء أبوظبي. ☚ الفنانون يتحدون الروايات القياسية حول الإمارات من خلال حوار بين الأجيال لاستكشاف الاختلافات الاجتماعية والثقافية والطبيعية ويعتمد الغصين “السخرية” عبر توثيق الدمار، محاولا التركيز على آثار الحضور البشري وخلق تعبيرات عن الفردية ضمن بيئة غير مريحة. وتستكشف أعمال الفنان في مجملها الحدود الفاصلة بين تصوير الطبيعة والتصوير الذاتي وفن الأداء، حيث يقدم صوراً فوتوغرافية تعبق بالذكريات وتمثل مساحات مهجورة وأشياء تتحرى الروابط الشخصية والعامة مع منطقة الشرق الأوسط. كما يتحرك الفنان، الذي امتهن التصوير والصحافة في بداية مشواره، لالتقاط صور لأماكن وأشياء ستختفي عما قريب، محافظاً على سرد المساحات وقاطنيها السابقين. بدوره، يستوحي الفنان هاشل اللمكي أعماله الفنية من تطورات المشهد الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أوائل عام 2000. وتعدّ إحدى لوحاته المعروضة بعنوان “اليوم الذي التقينا فيه توماس” جزءا من مجموعة أعمال رسمها اللمكي في عام 2021، وفيها استخدم الألوان الزيتية والصبغات الطبيعية لرسم التطورات البيئية المتسارعة في الإمارات. وتعرض الإماراتية شيخة المزروعي، التي تعتبر أن الفن هويتها الشخصية وتصوغ عبره رؤيتها وأفكارها، منحوتاتها المصنوعة من الفولاذ والتي تقدمها بصفتها تعبيرات فنية عن المادية وعن التوتر والتفاعل بين الشكل والمحتوى، بالإضافة إلى فهم بديهي قوي للمواد. والمزروعي فنانة عشقت النحت الذي يسمح لها بتجسيد كل ما تراه جميلاً في الحياة. وتسعى من خلال منحوتاتها لاستكشاف التعقيد والتناقض عبر تطويع مواد طبيعية مثل الرمال والحصى والأحجار لتكون أشكالا هندسية تعبيرية. وترى المزروعي أن كل شيء في المحيط له وجه آخر ترغب في إظهاره عبر جمع المتناقضات؛ كالجمع بين السلبي والإيجابي، والصعود والانحدار. أسماء بالحمر هي الأخرى فنانة تشارك في المعرض وتحاول عبر لوحاتها استكشاف ظاهرة “البنيان الضخم” التي تميّز دولة الإمارات، وهي تختار في الأغلب الاهتمام بتصميم الأسطح والنماذج كما تبتكر أعمالا تركيبية تستخدم فيها الأقمشة وورق الجدران وتجرّب تقنيات الطباعة والإسقاط لبناء هياكل ثلاثية الأبعاد. وتعرض بلحمر في معرض “ما بين السماء والأرض” مجموعة من اللوحات بعنوان “مراقبة الواجهة”، وفيها إعادة تصوير بالألوان لواجهة أشهر المباني والهياكل العملاقة المعاصرة لدولة الإمارات. ومن خلالها تتساءل الفنانة عن كيفية تأثير الهياكل العملاقة على تصورنا للواقع المعيشي في الإمارات. وتستكشف الفنانة لمياء قرقاش من خلال أعمالها الفوتوغرافية التصاميم المنزلية الداخلية كأطر للكشف عن أزمة الثقافة والهوية في الإمارات، ضمن سياق التغيير السريع الذي تمر به البلاد. أحداث يومية عابرة أحداث يومية عابرة ومن بين اللوحات المعروضة للرسامة لوحة بعنوان “منطقة الانتظار نادي أبوظبي البحري والرياضي” وفيها توثق قرقاش -كما في سائر لوحاتها- المساحات المنسية في الفضاءين العام والخاص في المجتمع الإماراتي، وتلتقط آثارًا معمارية متجددة ذاتيا. وتبدو معظم أعمالها مستوحاة بشكل كبير من المساحات المسكونة والمهجورة على حدّ السواء. ويشارك الفنان محمد أحمد إبراهيم -الذي يعتبره النقاد فنانا مفاهيميا، حيث تتركز اهتماماته الرئيسية على الاشتغال بالمواد الطبيعية وابتكار فن من الأرض، ويستلهم عمله من الرموز البدائية المستقاة من المفاهيم النفسية- بمجموعة من المنحوتات بعناوين مختلفة، منها لوحة بعنوان “شتلة” وأخرى بعنوان “باقة”، وقد نوّع المواد المستخدمة لإنجازها بين صناديق الورق المقوى وشرائح الكرتون والحجر والأسلاك النحاسية والورق المعجن والكتان، في محاولة منه لتجسيد تفاصيل من طبيعة مدينته خورفكان ومكوناتها. من جانبه يشارك الفنان التشكيلي محمد كاظم بثلاث لوحات، اثنتان منها بعنوان “نافذة 2018 – 2020” وأخرى بعنوان “جيران”، وفيها يمزج الفنان بين الألوان المائية وفن الغرافيتي ليصور الأحداث اليومية العابرة، ضمن توجهه الفني العام الذي يقوم على تطوير ممارسة فنية تشمل الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والأداء من أجل إيجاد طرق جديدة لفهم بيئته وصياغة تجربته في الحياة. ويعد محمد كاظم من الشخصيات البارزة ضمن الجيل الثاني من الفنانين المعاصرين في الإمارات. وتمتاز تجربته الفنية باستعماله العناصر المختزلة ضمن أنماط متكررة، حيث يتفاعل الفنان مع الموقع الجغرافي والمادي والعناصر المكونة له كوسائل لتأكيد ذاتيته، لاسيما في ما يتصل بمجريات التحديث المتسارعة في الإمارات منذ تأسيسها في عام 1971. ويقدم معرض “ما بين السماء والأرض: فن معاصر من الإمارات” فرصة لزواره افتراضيا وعلى عين المكان للاطلاع على أعمال أوغسطين باريديس، وهو أصغر الفنانين المشاركين؛ فهو من مواليد عام 1994، وهو فنان فلبيني يعمل مصورا فوتوغرافيا في دبي. ويستمد باريديس سردياته البصرية المعاصرة والحسية من أسفاره الحافلة بالقصص، ومن الوعي الإنساني لشعوب جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى نظرته الفضولية في استكشاف البيئة الإماراتية والخليجية الغريبة عنه. ويعرض أوغسطين صوره الفوتوغرافية، التي يلتقطها بعين المشاهد الغريب عن المكان وبيئته، على ورق ونسيج شفاف. ومن بينها صورة بعنوان “غروب الشمس في ساحة انتظار سيارات مينا زايد، 2021” وأخرى بعنوان “تمور من سائق 2021”. وتجدر الإشارة إلى أن ما ذكرناه هو جزء من بعض الأعمال التي أنجزها عدد من الفنانين الاثني عشر المشاركين في المعرض، والتي لا يكفيها مقال وحيد للمرور عليها جميعا، بل نترك لمحبي هذه الأعمال فرصة زيارة المعرض والاطلاع على تجارب فنية ومدارس تشكيلية معاصرة، تبتكر من المحيط وتستوحي منه موادها ورؤيتها للأشياء، فتصور الهوية الإماراتية بنظرة معاصرة تسمو بها نحو السماء والفضاء الرحب، وترتفع بها كما بناياتها الشاهقة، نحو مساحات شاسعة ومتحررة من الضوابط الفنية التقليدية والمألوفة.
مشاركة :