عرف إميل زولا عند القارئ العربي كروائي عالمي أكثر بكثير مما عرف كقاص، وذلك من خلال الترجمات العديدة التي قدمت لأعماله الروائية الهامة التي أسست للواقعية الطبيعية في الرواية الفرنسية، كما عرف ولو بدرجة أقل كقاص ساهمت قصصه في تحويل باريس إلى مدينة أسطورية وأيقونة ساحرة. لكن قبل أن يصبح زولا الكاتب الشهير والمؤثر فإنه بالأساس ناقد فني، تعمق طويلا في تجارب رسامين مهمين مثل إدوارد مانيه ورسامين طبيعيين، وكان لعوالم الفن التشكيلي التأثير الأساسي والكبير في أدبه وقد ألهمه نزعته الطبيعية التي اشتهر بها في ما يكتب. من منا لم يقرأ لإميل زولا (1840 – 1902) أو على الأقل سمع به وبأدبه وعالمه الروائي الذي شكّل إلى جانب غوستاف فلوبير ومن زامنهما قفزة نوعية في الكتابة الأدبية والروائية على حد السواء، في القرن التاسع عشر ومنعطف القرن العشرين. يوصف زولا بأنه “الأب الروحي” للنزعة الطبيعية في الأدب، المتأثرة بالمنهج التجريبي للعالم الفيزيولوجي الفرنسي كلود برنارد (1813 – 1878). فهذه النزعة المستحدثة سعت لرسم الواقع بأكثر دقة وأصالة. وقد تزامنت، في ما بعد، مع الواقعية في فن الرسم والصباغة، وحتى الأدب، التي أسسها آنذاك الفنان الفرنسي غوستاف كوربي حوالي عام 1848. شمعة بودلير وُلد أدب زولا في عصر مشحون بالتجارب والتيارات والمذاهب، عصر حاول فيه كل من الأدب والفن بلوغ المثالي في أقصاه، والتعبير عن الحالة الطبيعية الإنسانية في تجلياتها القصوى، عصر يتميّز بموقف الفنان في مواجهة الواقع وتمثيله، أي إنه يهدف إلى تمثيل الواقع بأمانة قدر الإمكان، مع اختيار الموضوعات والشخصيات من الطبقات المتوسطة أو الدنيا. وهكذا حقّ أن تدخل الرواية، ومعها الفن بشكل عام، العصر الحديث ما مكنها منذ ذاك الحين فصاعدًا من أن تتناول موضوعات مثل العمل بأجر أو العلاقات الزوجية أو الصدامات الاجتماعية والعلاقات الحميمية وتعبر عن دواخل الفرد ونزاعاته وتصادماته وتقلباته. ☚ رغم ما اعترى نقد وتفكير إميل زولا من تقلبات، إلا أنه في آخر المطاف سيظل وفيا للفنانين الطبيعيين غير أن اشتغال إميل زولا لم يكن مقتصرا على التأليف الروائي والقصصي، بل سمحت له رؤيته “الفكرية” تجاه العالم والأدب والإنسان بأن يلج عالم الكتابة في الفن ويمتهن صفة الناقد الفني، وهو الذي يُلقب بصديق الفنانين والرسامين عند البعض؛ فقد ربط صداقات متعددة مع مانيه وسيزان وكوربي وآخرين، بل إن زولا قد زاول هوية الفوتوغرافيا في سنواته الأخيرة. وفي الوقت الذي أوشكت فيه شمعة حياة شارل بودلير على الانطفاء، اشتعلت شمعة شهرة زولا باعتباره صحافيا شابا متحمسا للفن والنقد، قبل أن يُشتهر روائيا بارزا. وعندما أصبح صاحب رواية “الأرض” مهتمًا برسم مانيه عام 1866، كان لا يزال ناقدًا فنيًا مبتدئًا شابًا، صحافيّا مثيرا للجدل -بالأحرى- وليس كاتبا مرموقا، كما سيصير في ما بعد. مانيه في ذاك الوقت كان بالفعل فنانا مكرسا، وصديقا مقربا من الشاعر والناقد بودلير الذي سطعت نجمته في عالم الأدب والفن على حد السواء. بطريقة معينة، ولكن على أسس مختلفة تمامًا، تولى زولا الروائي المسؤولية عن بودلير الشاعر الذي توفي عام 1867. بالاعتماد على أعمال الرسامين وضع زولا مبادئ ما سيصبح عقيدته – نزعته الطبيعية في الفن: الاعتقاد في الطبيعة كما هي؛ أي التعبير عن الحقيقة والثقة في الأشياء ذاتها كما هي في العالم من حولنا والقدرة على تمثيلها كما هي بلا أي تحريف، دون تحيز أخلاقي أو اجتماعي، ودون تغيير فيها، ودون “تشويه”. فذاتية الفنان ورؤيته الشخصية وخياراته هي الشروط الضرورية لظهور الحقيقة والجمال في العمل. الإنسان بالنسبة إلى الواقع الخارجي هو العنصر المتغير، إنه عامل التجديد المستمر. كل هذا تأثرا بالفلسفة الوضعية التي أسس قواعدها أغوست كونت، ووجدت جذورها في حقل العلوم الطبيعية في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. إن كان “صالون” 1846 محطة ميلاد بودلير الناقد الفني، قبل بودلير الشاعر الكبير، بعد بروز كتاباته الجادة والمتميزة حول هذه التظاهرة الفنية الكبرى؛ فشمس زولا ناقدا فنيا سوف تسطع مباشرة بعد دفاعه عن أعمال مانيه المرفوضة في “صالون” 1865. “أتجرأ وأقول بأن هذه اللوحة هي حقًا لحم ودم الفنان. تحتوي على كل ذلك وما تحتوي إلا عليه فقط”، يقول إميل زولا مدافعا عن لوحة أولامبيا لمانيه. خصومة مع الانطباعيين الطبيعية تيار فني كامل (لوحة للفنان جول بريتون) الطبيعية تيار فني كامل (لوحة للفنان جول بريتون) ترك إميل زولا إرثا أدبيا ونقديا مهما يشمل ما خطه عن الصالونات وعن أعمال دزينة من الفنانين الذين عاصرهم وتتبع تجربتهم عن قرب، وصادقهم وتقاسم معهم الرؤية ذاتها تارة أو اختلف معهم تارة أخرى. وقد انعكس الأمر على أدبه أيضا، إذ نلمس البعد الفني في مجموعة من كتاباته وخاصة روايته “المنجز” L’Œuvre التي نشرها سنة 1883، وهو عام وفاة مانيه. وتصور هذه الرواية المناخ العام في عصر شهد معركة المدرسة التأثيرية التي قادها شباب الفنانين في ذلك الوقت ضد دعاة الفن الأكاديمي، غير أن زولا يخلق شخصية الرسام كلود لانتييه، وهو نوع من التوليف بين شخصيتيْ مانيه وسيزان، والذي يجسد عبقريًا فاشلاً غير قادر على إنهاء اللوحة، ويقوم باستمرار بتصحيح لوحاته وينتهي به الأمر إلى الانتحار بالقرب من آخر أعماله. كما نلمس الجانب الأدبي في تناوله النقدي للأعمال الفنية، ما يجعله منصهرا في ما يكتبه عن الفن. بالاعتماد على أعمال الرسامين وضع زولا مبادئ ما سيصبح عقيدته الطبيعية في الفن؛ الاعتقاد في الطبيعة كما هي مع ظهور روايته “المنجز” وبعد دفاعه عن مانيه، ستعرف رؤية زولا تجاه الفن وتصوره الفكري عنه انعطافا مؤقتا، سيقوده إلى حد الدفاع عن الانطباعيين الذين جاءوا مع الريح التي تعاكس تصور الفن المخلص للطبيعة والواقع والمحاكاة الصرفة لهما، كما أسس لذلك كوربي. قلتُ مؤقتا، لأن دفاعه عنهم لن يطول زمنيا، فقد خلقت رواية “المنجز” الفراق والخصام بينه وبين الانطباعيين، الذين وصفهم قائلا “كل الرسامين الانطباعيين يخطئون بسبب القصور الفني. في الفنون كما في الأدب، الشكل وحده يدعم الأفكار الجديدة والأساليب الجديدة. فلكي تكون رجلاً موهوبًا، عليك أن تدرك ما يعيش في نفسك، وإلا فأنت مجرد رائد. الانطباعيون هم على وجه التحديد رواد في رأيي. للحظة كانت لديهم آمال كبيرة في مونيه، لكن هذا الأخير يبدو منهكًا بسبب الإنتاج المتسارع؛ إنه راض تقريبا. إنه لا يدرس الطبيعة بشغف المبدعين الحقيقيين”. وقد كان هذا الحكم القاسي لحظة فراق بينه وبينهم، فراق من علاقة لم تدم طويلا. الإخلاص للواقع رسومات الطبيعيين خادعة (لوحة للفنان جان فرانسوا ميليت) رسومات الطبيعيين خادعة (لوحة للفنان جان فرانسوا ميليت) تجدر الإشارة إلى أن زولا يسعى في قراءة أعمال مانيه إلى ما يثبت نزعته: التخلي عن المثل الأعلى الجميل والخيال والتاريخ والأساطير لصالح الحياة اليومية الحديثة، والتحرر من شرائع الانسجام. ورفَض التسلسل الهرمي للأنواع الذي يضع رسم التاريخ في القمة، ثم البورتريه، والمناظر الطبيعية، ومشهد النوع، وأخيراً الطبيعة الصامتة، من أجل تصور مباشر للواقع. بينما سيشعر الناقد بخيبة أمل من الاتجاه الذي اتخذه الفن الانطباعي، والذي يعتبره غير مكتمل، مما أدى إلى التخفيف والابتعاد عن الموضوعات التي ينادي بها في الأدب، ولاسيما المستضعفين وغير المحميين من المجتمع والعاديين. فمهمة النزعة الطبيعية في الأدب وصف الجماعات البشرية أو الأفراد من وجهة نظر اجتماعية، وفقًا لطريقة تحليل وثائقي مقتبس من العلوم التجريبية، مع الطموح، رغم ذلك، إلى التنديد بالظلم وإبراز الدراما البشرية، في الوقت الذي يبدو فيه أن الانطباعيين يتطلعون إلى فن مستقل بذاته وحر نابع من ذات الفنان. بالنسبة إلى زولا يجب أن يكون الفنان مترجمًا مخلصا للواقع؛ دون أن ينسى أن سحر وكثافة اللوحات يأتيان من وصف دقيق بالنسبة إلى إميل زولا يجب أن يكون الفنان بالتأكيد مترجمًا مخلصا للواقع؛ غير أنه يجب ألا ينسى أن سحر وكثافة اللوحات يأتيان من وصف دقيق. وفي اللحظة التي يسود فيها المزاج على الإخلاص للمظاهر والواقع، يرتد زولا بخوف أمام الضربات وشدتها التي يرى أنها مبالغ فيها، فيصرخ كاتبا “أوه! السيدات اللواتي لديهن خد أزرق، تحت القمر، والخد القرمزي الآخر، تحت المصباح.. أوه! الأشجار الزرقاء والمياه الحمراء والسماء الخضراء! إنه فظيع، فظيع!”. رغم ما اعترى نقد وتفكير إميل زولا من تقلبات إلا أنه في آخر المطاف سيظل وفيا، في رؤيته ونزعته الطبيعية، لفنانين آخرين سيصنفهم على أنهم طبيعيون naturalistes، أمثال جان فرانسوا ميليت وجول بريتون. فهم يجددون صورة الطبيعة والقرى وعمل العمال ويعطون أنفسهم طموحًا لنسخ العالم عبر اشتغال تقني واجتماعي معمّق. وكانت رسوماتهم خادعة وموثقة أحيانًا بالتصوير الفوتوغرافي. لهذا من الممكن أن تكون ممارسة إميل زولا للتصوير الفوتوغرافي قد عززت أيضًا تذوقه للدقة “الموضوعية” لدى هؤلاء الفنانين، وتغاضيه عن استعمالهم للتوثيق الفوتوغرافي قبل إنجازهم لأعمالهم، وهو ما كان يُرعب غوستاف كوربي الذي سبق أن وصف آلة الفوتوغرافيا بكونها “يسكنها الشيطان”، لأنها تهدد الفن الصباغي والفنان الرسام. ورغم ما يعيبه زولا على الانطباعيين سوف يشكل هؤلاء انعطافة كبرى نحو الفن الحديث الذي سوف يغير كل تصورات الفن والتعاطي معه وأيضا يعيد تعريف مفاهيم عديدة في عالم الجميل والجمال.
مشاركة :